الاستماع ودوره في إنجاح التفاهم والحوار

عندما نتحدث.. نحب أن يستمع إلينا الآخرون.. لعل هذه طبيعة عامة فينا جميعاً.. لأن الاستماع يشعرنا بالثقة والاحترام.. ويحسسنا بالأهمية..

وقد أثبت علماء النفس الاجتماعي أن الاستماع الجيد إلى الآخرين ليس بالضرورة ينتهي إلى التأثير الكامل عليهم إلا أنه يزيد من أواصر المحبة والتقارب الروحي والعاطفي بين الناس..

كما أن من أبرز سمات العظماء وأصحاب النفوذ والتأثير في المجتمعات هي الاستماع والإصغاء إلى كلام الآخرين..

فليس كثرة الكلام دليلاً على قوة الشخصية ولا قوة التأثير بل ربما – أو في الغالب – ينتهي كثرة الكلام إلى ما لا يحمد عقباه من النتائج..

فإن الكلام الكثير يعرّض صاحبه إلى الوقوع في الأخطاء الكثيرة أيضاً والدخول في مجالات بعضها هامشية قد تضر ولا نفع مضافاً إلى أن الملل الناجم منه ربما ينزل بمستوى الحديث إلى مصاف الحديث العادي والكلمات فاقدة القيمة أو الشعارات التي تفتقد إلى المزيد من الواقعية..

وبالتالي فان من كثر كلامه كثر خطأه..

استماع القادة

إن بعض المدراء والقادة يستصعبون الاستماع إلى أصدقائهم العاملين معهم تصوراً منهم أن ذلك مضيعة للوقت أو انشغالاً بأمور جزئية لا تعد مهمة.

والحال أن هذا من الأخطاء الكبيرة عل المدى البعيد.. صحيح أن بعض ما يقال ويثار في الكلام يعد من الهامشيات ويأخذ من وقت المدير وأعصابه الشيء الكثير إلا أن الكثير منه أيضاً قد يكون مهماً ويساهم مساهمة فعالة في تحسين وضع العمل وربما يقدح في ذهن القائد أموراً تعينه على اكتشاف الكثير من الخفايا والمهام أو توصله إلى الأفكار الاستراتيجية على مستوى الفكر أو التطبيق..

أو على الأقل تضع المدير في الأجواء الخاصة للعمل والعاملين أيضاً التي في الغالب هو بعيد عنها وكلنا يعرف كم للإحاطة بالأجواء الخاصة دور في الإدارة الكفوءة، هذا فضلاً عن الفوائد الروحية والفكرية التي يكتسبها الأفراد جرّاء المجالسة مع الــــكبار والمحاورة مباشرة معهم.. وهناك ملاحظة مهمة ينبغي أن لا يغفل عنها المدراء في ذلك وهي:

إن صاحب الكلام في الغالب لا يخلو من ظلامة أو إحساس بالحرمان أو نقص يود إيصاله إلى الدائرة الأعلى لتنتصف إلى حقه أو يحمل اقتراحات أو تصورات يراها تساهم بشكل كبير في تحسين الأداء أو تطوير العمل أو تنظيم الوضع الإداري بشكل جيد.

ومن الواضح.. أن الإنسان إذا أحسّ بحاجته إلى الكلام سيكون مشدوداً إلى البوح به وربما تنشحن نفسه بذلك وتكبر الشحنات وتتفاعل معه كلما تأخر إفراغها وإثارتها. وعليه فلا بد لهذه الشحنات من تفريغ فاذا وجد الإنسان أمامه من يستمع إليه من الأفراد الذين يهمه سماعهم أو يريد إيصال كلامه إليهم يكون قد شعر بأنه أدى ما عليه وحقق بعض غرضه وأما إذا وجد أمامه الباب موصداً فإن ذلك سينعكس عليه سلباً وربما يصدمه نفسياً ويعود إلى ما لا يحمد عقباه من ردود الفعل.

لأن الكلام شحنة كبيرة في النفس وطاقة جبارة لابد أن نوجد لها منافذ للتنفيس أو التنظيم لكي نستثمر إيجابياته ونحد من سلبياته.

وينبغي أن لا ننسى أبداً أن السيل الجارف يتكون من القطرات والقشة ربما تقصم ظهر البعير..

والكثير من المشاكل العويصة والأزمات الخطيرة كانت في بادئ أمرها صغيرة ولما لم نلتفت إلى احتواءها وتحديدها تكبر ثم تنفجر وتعود على الجميع بالضرر.

وينبغي أن لا نغفل أيضاً – إذا لم نستمع إلى الآخرين بشكل جيد وفعال – أن ذلك قد يزرع للمسؤولين صورة في أذهان أصدقائهم تصورهم بأنهم لا أباليون أو أنهم يترفعون عن مجالسة أصدقائهم والمتعاونين معهم وما يترتب على هذا الانطباع السيئ من النتائج الخطيرة والأضرار البالغة على العمل والعاملين أوضح من أن تخفى.

تخفيف التوتر

هل جربت الدخول في محاورة مع شخص كثير الكلام؟‍‍!.

- ما هو شعورك وهو يتحدث إليك مسهباً؟!.

- وهل جربت محاورة أناس يستمعون أكثر مما يتكلمون ما هو شعورك معهم؟.

لاشك أنك تشعر أحياناً بأن الثاني قوي الشخصية والتأثير واسع المدى وواثق الخطى بينما الأول يشعرك بالمزيد من الملل والسأم وبالتالي لا يستطيع أن يحقق أهدافه المرجوّة.. لأن الكلام وسيلة للتعبير والتفاهم وخير الكلام ما قلّ ودل كما يقول مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام)..

فإذا زاد الكلام عن حدّه ابتلي بالتكرار وتوضيح الواضحات التي هي من مستهجنات البلاغة وبالعكس من ذلك الاستماع فقد أورثت التجارب العديدة – فضلاً عما ورد في الأخبار الشريفة وما أثبته علماء النفس الاجتماعي – المزيد من القناعة في أن الاستماع الجيد من أهم الأدوات الرئيسية للوصول إلى قلوب الآخرين والتفاهم المثمر معهم..

وخاصة في مواقع الخلاف والتوتر. وفي الواقع لوحظ أنها تؤدي دوراً كبيراً في التخفيف من التشنجات وتهدئ من الميول العدوانية واستعمال العنف في لحظات الانفعال.

فعندما نستمع بانتباه وهدوء إلى محدثينا محاولين فهم مما يقولونه فإن من الصعب أن نقع أسرى الإثارات والاستفزازات التي يمكن أن نتعرض لها..

كما أن من الصعب – في الغالب – أن نواجههم بالعنف أو نمارس معهم شكلاً من أشكال السيطرة أو نتعصب لآرائنا فقط ونتصرف وكأننا وحدنا على حق.. أو نقوم بتغيير الموضوع أو استعمال المغالطة في طريق الحوار.

إذاً الإصغاء الفعّال والمدروس يشكل صمام أمان يحمينا من الوقوع في أسارة أفكارنا المسبقة أو انفعالاتنا الحارة.. فكيف إذا مارس طرفنا الآخر الأساليب نفسها وقابلنا بالهدوء والثقة واستمع إلينا جيداً أيضاً؟.

في الأجواء العادية المريحة – كمحادثة صديق حميم أو قريب في شؤون الحياة – نستمع إلى محدثينا بشكل جيد وهادئ.. ونحس وكأننا نحتاج إلى المزيد من الاستماع إلى كلامهم..

وباختصار نسمح لهم أن يقولوا ما عندهم ونحاول نحن أيضاً أن نتعاطف مع ما يقولون ونشعرهم بالاهتمام والتفاعل بل ونساعدهم على طرح مشاكلهم بوضوح وأمان.. لأننا نستمتع بكلامهم.. أو نحب أن نكسب ودّهم ونحافظ على علاقاتنا معهم بشكل جيد ووطيد..

وأما عندما تكون الأجواء متوترة ومشحونة بالانفعالات – وهو الذي يحصل في مواقف الخلاف غالباً – فإن العديد منا ينسى إمكاناته الكبيرة في احتواء الأزمة فيتورط فيها بل وربما يزيدها اشتعالاً، إذا لم يبد من نفسه اهتماماً للإصغاء وفهم ما يقوله الطرف الآخر وماذا يريد؟.

والسؤال الذي يطرح هنا هو: كيف ينبغي أن نصغي لنحتفظ بثقتنا في احتواء الأزمة رغم التوتر المتصاعد؟ وماذا يمكننا أن نفعل لنشجع الطرف الآخر – المنفعل – على التعاون بدلاً من الصراع أو امتصاص مضاعفات الانفعال على الأقل؟ وما هي الأساليب التي توفر إصغاءً فعالاً في إجراء الحوار؟.

لاشك أن هناك العديد من المهارات العملية التي لا يكفي معرفتها والعلم بها في فرض السلام على التوتر ما لم نمارسها ممارسة ميدانية متواصلة.. وفي هذا المختصر نذكّر ببعض الأدوات الأساسية للاستماع الفعّال..

 أولاً- لخّص محاورتك

على الرغم من بساطة التلخيص إلاّ أنه يعتبر مفتاحاً مهماً من مفاتيح الإصغاء الفعّال، وإذا جربت مرة – وأنت تحاور- تلخيص ما يدور بينك وبين محادثك وسجلت النقاط البارزة من حديثه ستتوصل إلى الفوائد الكبيرة التي تحصل عيها جرّاء ذلك سواء على صعيد كسب الود والمحبة أو على صعيد التفاهم والاتفاق..

ولو أوجزنا الفوائد الجمّة التي نكسبها من التلخيص بشكل نقاط سنجد كم للتلخيص من أهمية في تفعيل الحوار واستثماره..

فعندما نلخص ما يقوله محدثنا بين حين وآخر فإننا:

1- نعطيه المزيد من انتباهنا وتركيزنا على مؤدى كلامه والوصول إلى عمق مضامينه ومراميه.. لأن الكتابة والاستماع معاً يشتركان لشد الذهن إلى محور الكلام والحؤول دون شروده إلى ما يصرفه عن صلب الموضوع.

2- ونوضح له في الوقت نفسه أننا نتابع معه مجريات الحديث وتسلسل موضوعه فيشعر بالمزيد من الثقة والتركيز أيضاً لإشباع الموضوع بما يثري البحث ويمنعه من الهامشيات، وهذا أمر يعود علينا أولاً أيضاً لأنه يسهل علينا فهم ما يدور في خلد طرفنا الآخر وتفهم مصالحه وأغراضه وهو بدوره يوفر لنا قدرة أكبر على إدارة الحوار بما يلبّي طموحاتنا ويعود على الجميع بالنفع.

3- إنه يجنّبنا الوقوع في شراك الفهم الخاطئ لما يقوله الطرف الآخر وبالتالي تبني بعض الآراء والمواقف التي ربما تسيء إلينا أو إليه من حيث لا نحتسب.

4- إنه يجنبنا الوقوع في فخ الفرض والسيطرة على الآخرين أو الظهور بمظهر من يحاول ذلك على الأقل.. لأن التلخيص يمنع ـ في العديد من الحالات - من المقاطعات أو الهبوب في وجه المتحدث بين آونة وأخرى لرد كلام له أو توجيه كلام إليه..

ولو لاحظنا أجواء الندوات التي يعقدها أناس يلخصون ثم يتكلمون وأخرى خالية من التلخيص ستجد كم للتلخيص من أهمية في إضفاء الهدوء والموضوعية على أجواء الحوار.. لأن من لا يلخص يقع أحياناً في فخ الاهتمام بما يقوله هو ويشدّ مشاعره وذهنه لما يريد أن يعبر عنه هو أو يلبي له مصالحه وينسى أو يغفل عما يريد أن يتحدث به طرفه الآخر لذا قد يبتلى بتضييع الحوار بالمقاطعات المستمرة أو تغيير مجرى الحديث.. أنظر على سبيل المثال:

أ) إنه لمن دواعي سروري أن أجد فرصة أحدثك فيها عن الأعمال التي أنجزتها خلال هذه الفترة..

ب) (مقاطعاً) وأخيراً عرفت خطأك وتوجهت إلى وظيفتك.. (تغيير الموضوع وهو يشير إلى عدم الانتباه الجيد إلى ما يقوله الطرف).

أ) اسمح لي أن أكمل كلامي ثم تفضل بالإجابة.. إن أعمالي كانت صعبة وتعرضت فيها إلى الكثير من العناء..

ب) (مقاطعاً) طبعاً لأنك متفرد وتعمل لوحدك (حكم سريع، ونصيحة، وإثبات تفوق).

وأنت تجد أنه لو تواصل الحديث بهذه الشاكلة سيبتعد شيئاً فشيئاً عن أجواء الحوار الموضوعي الهادف وينتهي في آخر المطاف إلى العراك أو الانفصال – على أحسن الفروض – فإن الحوار الهادئ بحاجة إلى أجواء ودية صافية يسودها الاحترام والسكينة فإذا – أحياناً – يقوم من نرغب في أن يستمع إلينا ويتفهم مشاعرنا واهتمامنا بسد الطريق أمامنا ويقطع علينا باب التفاهم فإن ذلك سيقطع الأمل أيضاً بالتواصل معه والوصول إلى حل..

وأكثر من هذا – في المواقف التي نريد أن نبادل أطرافنا الحديث العادي اليومي – إذا واجهنا أطرافاً لا يحبون الاستماع ولا يبدون لنا أي اهتمام فإننا سنشعر بالألم وإذا لم نتحل بالصبر وسعة الصدر ربما ننفعل عاطفياً ونقلب جو الصداقة معهم إلى جو عراك وتخاصم فتصوروا إلى أي مدى يمكن أن يؤدي – التسرّع في الكلام وعدم الإصغاء – إلى إثارة الغضب والاستفزاز بل وربما ينتهي إلى العراك وفقدان الأصدقاء فضلاً عن معاداة الخصوم..

إذن الاهتمام بتلخيص حديث الآخرين بأمانة وهدوء يعطينا فرصاً كبيرة لفهم كلامهم ولتحكيم التفاهم بدل العراك كما يعطينا قدرة جيدة على تجنب محاولات الضغط والسيطرة ليحل محلها التحابب والتقارب المتبادل..

 عناصر التفاهم

وذلك لأنه يضمن لنا العناصر الأساسية للتفاهم من:

تركيز الانتباه على كلام الطرف الآخر.

والتأكد من فهم مغزى حديثه.

ومتابعة النقاط الهامة منه للرد أو التأييد..

وإشعاره بالصدق والثقة والظهور بأننا نريد فهمه وعدم السيطرة عليه..

فإنه ليس من السهل تركيز الانتباه على كلام الخصم في مواقف الخلاف المتوتر.. لأن تشنج الأوضاع وتوتر الأعصاب قد يغرينا بمحاولة المناورة وإفحام الطرف الآخر (لإثبات الأنا أو غير ذلك) وقليل منا من يفكر بإقناع الآخرين بصحة وجهة نظره من الزاوية المنطقية. وواضح أن محاولات الإفحام والفرض تقودنا إلى التركيز على أنفسنا وأفكارنا وما يهمنا.. وتساهم العصبية والانفعال مساهمة كبيرة لسد العين والتفكير عن تفهم الطرف الآخر وما يحسّه ويفكر به..

لذا فإن محاولة التلخيص تفيد في السيطرة على أنفسنا وتنظيم أفكارنا في نفس الوقت الذي تشير إلــى حسن نوايانا وصدقنا في الحوار مما يشيد تواصلاً أفضل ويقيم جواً صافياً من الأمن والثقة ويبني جسوراً متينة للتفاهم والارتباط بين الطرفين.. لأن التلخيص يعطي للمتحدث شعوراً بتتبعنا لتفاصيل حديثه بدقة واهتمام دون أن نحسسه بضغط أو ثقل آراءنا الخاصة ودون أن نوجه إليه سلسلة الأسئلة والمقاطعات الشبيهة بالأحكام القاسية..

وبالتالي فإن التلخيص يتضمن الإعلان للطرف الآخر عن استعدادنا لتفهمه وجاهزيتنا للتعاون معه.. وهذا الأشعار كفيل بشدّه إلينا ودعوة صادقة للتقارب والتفاهم ثم التنسيق..

فوائد أخرى

لكي ننجح في تأثيرنا أو استثمار الحديث مع الآخرين فإننا نحتاج إلى إشارات تدل على حبنا للتواصل ومتابعة الحوار معهم..

كثيراً ما يحدث – حتى في أحاديثنا اليومية مع الأصدقاء – أن نحس بأننا أخطأنا في فهم محدثنا بل وأحياناً نحس بأننا قد أسأنا فهم مقصده ونواياه وبالتالي أسأنا تقديره واحترامه..

ويزداد هذا الشعور في مواقف الصراع والتخاصم.. وذلك بسبب عدم الاستماع أولاً لما يقوله الطرف الآخر وماذا يريد..

والكثير من الناس يبتلى بسوء الظن والتشكيك في نوايا الطرف الآخر عندما لا يقيم تواصلاً معه وبالتالي فإن للشيطان دوراً كبيراً في إثارة النزاعات والفتن بين الأخوة والأصدقاء وفي الغالب يستغل القطيعة ليثير في النفوس الأضغان والتهم.. فإذا أقمنا تواصلاً معهم واستمعنا إليهم من قريب نكون قد أغلقنا عليه أبواب ذلك..

إن سوء الفهم.. وسوء الظن يجران وراءهما كثيراً من النتائج السلبية التي تنعكس بشكل واضح على مجرى الحديث وعلى إمكانات حل النزاع بشكل إيجابي وفعّال.

واستخدام التلخيص يوفر لنا قدرة جيدة على تخفيف الشكوك وتصعيد الأزمة وذلك لأننا بالتلخيص مضافاً إلى إشعار الآخرين بأننا جادّون من أجل التفاهم نكون قد امتلكنا القدرة على التأكد من مغزى كلامهم.. والتعرف على مدى فهمنا له..

فإن من المهم جداً أن لا نخلط في كلام الناس ونمزج ما يقصدونه بما نفهمه نحن فكثيراً ما نستنتج من كلام محدثينا استنتاجات متسرّعة ربما لم يكونوا يقصدونها فيوقعنا في مطبات سوء الفهم أو سوء الظن الأمر الذي قد يعكر أجواء العلاقات ويمنع من التفاهم.. فإذا لخصنا كلام محدثنا وركزنا على أهم النقاط فيه سيبقى لنا مجال للاحتجاج به عليه كما يبقى لديه فرصة للتفسير الواضح الذي يمنع من سوء الفهم الذي يزيد الطين بلة في معظم مواقف الصراع.

إن مهارة التلخيص يمكن أن تكون مفتاحاً للتفاهم المتبادل وللتعرف على مصالح كلا الطرفين وبالنتيجة تساعد على قيادة المفاوضات بشكل خلاّق وهادف بدلاً من العراك والأذى المتبادل..

وعليه فإننا نشجع على أن نجرب هذا الأسلوب في المحاورات لنصقل هذه المهارة فينا لنتعلم من احترام الآهرين والاستماع إليهم بشكل أفضل وليسهل علينا التفاهم معهم.

إن التلخيص وإن كان يتطلب منا المزيد من الجهد والتركيز وكتابة ما يدور في المناقشات إلا أنه يعطينا قدرة كبيرة على تحويل الصراع إلى تفاهم والعراك إلى تفاوض وبالتالي يعطينا مهارة جيدة على تحويل المشاحنات إلى محبة وتعاون مضافاً إلى ما له من طاقة كبيرة على توثيق الكلام وكذلك التعمق في مقترحاته وحلوله وفي مواقع الخلاف الاحتجاج به لنا أو علينا.

ويكفي في هذا فوائد جمّة تغطي على ساعات الجهد والتعب الناجم من عملية التلخيص نفسها..

  ثانياً – الدخول إلى عالم الآخرين

كثيراً ما يكفي أن ننظر من بعد إلى شخصين يتحدثان فيما بينهما لنتوصل إلى نوعية العلاقة التي بينهما وهل هي علاقة رسمية أم علاقة أقرب وأكثر حميمية.. (إذ لاحظنا وضعيات جسديهما أو حركات أيديهما أو المسافة التي تفصل بينهما) فربما سنتعرف على مستوى العلاقة بينهما.

هل تذكر منظر شخصين يتحدثان في مقهى أو كازينو أو حافلة نقل..؟

هل راقبت وضعك وأنت تتحدث إلى شخص قريب جداً إلى روحك وقلبك؟

هل انتبهت إلى أسلوبك في الحديث مع طفل صغير؟

إنك في الغالب تنزل إلى مستواه – الطفل – وتخاطبه على قدر فهمه ومداركه وفي الأخبار الشريفة ورد استحباب التصابي للصبي.. لماذا؟.. لأن ذلك كله عبارة ثانية عن فتح نوافذ نفسه والدخول إلى عالمه لتقيم معه تواصلاً جيداً. إذن أسلوب المحادثة وطريقة الجلوس وتقارب الوجهين أو تقاطع النظرات أو الهمس وغيرها مؤشرات عفوية قد تدلنا على مدى الانسجام والتفاهم بين الناس...

فإن الروح هي التي تتكلم ولكن مرة اللسان يعبّر عن مشاعرها وأحاسيسها وأحياناً الجسد وكلما كانت العلاقة صميمية أكثر كان خطاب الجسد أدل وأوضح.. عليه فإذا أردنا أن تصل كلماتنا ومضامينها إلى محدثينا بشكل جيد ولطيف فعلينا أن نحرص على أن تكون لغة الجسد متوافقة مع ما نقوله لهم..

وإذا كنا حريصين على أن يحدثنا طرفنا الآخر عن نفسه بسهولة وارتياح أكبر فعلينا أن نحسسه بالأمن والثقة في علاقته بنا..

ومن هنا فعلينا أن نفهم إيقاع وحركات جسده والألفاظ التي يستخدمها ومدى سرعة حديثه أو بطؤه والرموز التي يبطن بها الكلام لنتفهم أحاسيسه الكامنة جيداً ثم العمل على فتح منافذها والدخول إلى عالمه والتحاور معه من ا لداخل..

إن من أشد موانع التفاهم أن يتحدث شخصان من عالمين مختلفين لا يسعى أحدهما لدخول عالم الآخر.. أضرب لك بعض الأمثلة:

* عندما نتحدث إلى إنسان بسيط أمي فحتى ندخل إلى فهمه ومستواه لا بد وأن نتكلم بالأسلوب الذي يفهمه ويستمتع به وبالتالي نتمكن من أن نؤثر به ونوصله إلى طريق مفتوح للتفاهم فإذا تحدثنا إليه بألفـــاظ رنانة أو اصطلاحات من تلك التي يستخدمها المثقفون أو الاختصاصيون فإن ذلك سيمنع من التواصل الجيد لأننا نكون قد وضعنا بيننا وبينه حواجز كبيرة في المستويين وبالتالي نحول دون الوصول إلى نتائج مرضية لأن طرفي الحديث أصبحا في عالمين مختلفين تماماً.

* المدير الذي يتحاور مع عماله وموظفيه حول موضوع أو يحاول معالجة أزمة أو تصحيح فكرة لا شك أن فاصلة المواقع والأدوار يمكن أن تجعل فواصل نفسيه تحدد من مستوى العلاقات إلا أن المدير الناجح يمكنه أن يخفف من التباعد الكبير بينه وبينهم إذا دخل إلى عوالمهم فمثلاً..

*ربما يجد من المناسب أن يلتقي معهم في بيته ويواصل الحديث وهو في ملابسه البيتية..

* وربما يقبل ضيافتهم البسيطة على فنجان قهوة أو شاي في كازينو وربما يخرج معهم في جولة سياحية..

*وربما يأكل طعاماً شعبياً لم يتعوّد العمال والموظفون أن يروه على هذه الحالة.

* وإذا ابتعد عن الأسلوب الخطابي واجتنب الألفاظ ولغة القرارات ليستعمل بدلاً منها كلمات بسيطة وأمثلة من واقع العمال سيكون أقرب إليهم ويشعرهم بالثقة والاطمئنان للانفتاح عليه.. لأنه أصبح واحداً منهم..

وهذا الانفتاح الإيجابي الكبير من شأنه أن يمد جسور التفاهم والاتصال الذين يحظى الجميع بفوائدهما..

*وفي موقف آخر.. يمكننا أن نشجع محدثاً خجولاً على الحديث بعفوية واسترسال عندما ننحني بقامتنا إليه أو نصغي إلى كلامه مع اقتراب قليل باتجاهه أو نتواصل معه بصرياً بشكل لطيف وشفاف..

ولعل العديد منا مرّوا في تجارب لدى الحديث مع أناس لا يركزون كثيراً في الحوار كيف يكون الحديث معهم ثقيلاً أنظر.. إذا تحدثنا مع أشخاص باهتمام فوجدناهم يتطلعون إلى ساعاتهم أو يصلحون من هندامهم أو يتصفحون أوراقاً أو يطالعون مجلة أو صحيفة، أو يلتفتون إلى هنا وهناك كم سيثير هذا الأسلوب فينا من النفرة والملل والإحساس بالاحباط..

* إذا دخلت في حوار مع مديرك أو زميلك وفوراً حمل التليفون أو قطع حديثك وتكلم مع شخص آخر.. قد يشعرك بأنه في عالم غير عالمك.

إن إقامة تواصل مثمر مع الطرف الآخر يكون أسهل وأقرب عندما ندخل إلى عالم الطرف الآخر وننفذ إلى روحه وقلبه.. وتزداد أهمية هذه الآلية كلما كان موضوع الحديث صعباً..

إذن نستطيع أن نستمع إلى محدثنا استماعاً فعالاً عندما ندخل بشكل سريع إلى عالمه.. وواضح.. إن الدخول إلى عالم الآخرين ليس له صيغة ثابتة بل ربما يكفيك الدخول إلى عالم محدثك:

أن تجلس معه جلسة بسيطة ومنفتحة.

وربما تنحني إليه جسدياً أو تتوجه إليه بوجهك ومقادم بدنك.

وربما تجلس معه في مطعم أو مقهى.

وربما أن تتكلم بالطريقة التي يحبها ويميل إليها وهكذا..

وبالتالي فإنه ليس من الصعب أن تساهم بعض الالتفاتات البسيطة لأسلوبنا وطريقة تعاملنا مع الآخرين في تحسن علاقاتنا بهم وتوطيد جسور الربط وفي النتيجة التوصل معهم إلى تفاهم أفضل حول المشكلات الصعبة.

إن تمثل عالم الطرف الآخر هو فن بذاته والفوائد المترتبة عليه أكبر مما نتصور إن الناس أذواق ومشارب والحالات النفسية للبشر تساهم كثيراً في نوعية قراراتهم وطبيعة تصرفاتهم..

فإذا تمكنا من أن نتعايش مع الآخرين حسب ميولهم النفسية ودخلنا عوالمهم وتكيفنا مع أجواءهم سنكون في الحصيلة أقدر على تفهم ما يريدون وبالتالي أقدر على إدارة الأزمة معهم إدارة ناجحة ومثمرة.

فإن تمثل عالـــم الخصم يفيدنا بالإضافة إلى ما تقدم.. يفيدنا فــي صب موضوع الحديث في النقاط الهامة التي تمسنا وتدخل في أولوياتنا..

فعندما يحس محدثنا بأننا قريبون من عالمه الخاص ودخلنا إلى قلبه ومشاعره فإنه يكون من الأسهل عليه وعلينا أن نتعامل بارتياح وطيب نفس وهو يوفر لنا قدرة أكبر على أن نؤثر فيه بمقترحاتنا وآراءنا لأنه لا يشعر بأننا معه في حالة حرب أو خصومة.. أو هناك نوايا يخافنا منها.. كما لا يحس بأن هناك محاولات ضغط وإكراه تفرض عليه من خارج.

ثالثاً – اعمل على توجيه الحديث

ونعني به الإدارة المقصودة لأقوالنا وأقوال محدثنا في الاتجاه الذي نطمح إليه.. وطبيعي هذا يشمل صيغة الحديث ومحتوياته..

إن محدثينا قد لا يستطيعون في بعض الأحيان أن يتحدثوا إلينا بطلاقة خصوصاً في القضايا الهامة بالنسبة إليهم لذا ربما يقعون في مطبات تهميش الكلام أو الخروج به عن الموضوعية أو الامتناع عن المواصلة وتتجلى هذه الأزمة في مواقع الخلاف.

ربما يعود ذلك إلى توترهم النفسي.. أو خجلهم أو قلقهم وخوفهم من العواقب أو الإبهام في المستقبل وغموض المصير ونحو ذلك..

فإذا كان هدفنا نحن أن نتوصل إلى تفاهم ثم تعاون معهم فإن بإمكاننا أن نساعدهم على التعبير عن ذلك بسهولة وفي نفس الوقت نقود المحادثات بالاتجاه الذي يهمنا ويهم المفاوضات..

كيف نوجه الحديث؟

لعل أول طريق للوصول إلى الآخرين هوان نبدأ نحن بالتحدث عن أنفسنا فيما يتعلق بموضوع البحث.

فإننا بذلك نكون قد زودنا طرفنا الآخر بما يعينه على فهمنا ومخاطبتنا وفي نفس الوقت نكون قد رفعنا عنه حالة القلق والخوف ولو بعض الشيء.

وذلك لما تقدم بيانه من أن أكثر المخاوف والقلق ينشأ من الغموض في الطرف الآخر فإذا تحدث عن نفسه بوضوح وصراحة يكون قد أزال عن نفسه الالتباس.. ولعلنا نبدأ الحديث هكذا..

* إني أدرك كم لهذا الموضوع من الأهمية بالنسبة إلينا لذا قد يصعب عليك التحدث به وقد وقعت أنا شخصياً بهذا الإحساس في تجارب سابقة فقد جرى حديث مع... (وتبدأ تقص له الموضوع تدريجياً من حيث لا تشعره بروتين المحاورة).

فإننا عندما نبرز الــجزء المخفي من شخصيتنا بأسلــوب رقيق ولطيف نكون قد أشعرناه بالأمن والطمأنينة فيتشجع بشكل طبيعي للحديث معنا بارتياح وثقة. في الوقت الذي ما كنا نحصل على هذا الاسترسال إذا تعاملنا معه وفق الروتين أو بقينا نتكتم ونتحفظ منه.

إذن بالحديث العفوي الواضح يمكننا أن نوجّه الحديث بالاتجاه الذي يعود علينا جميعاً بالفائدة وتحقيق المصالح المشتركة...

هناك أسلوب آخر لتشجيع الطرف الآخر للدخول في الحديث بأمان وثقة.. وهو لا يقل أهمية عن الأول.. وذلك إذا حددنا موضوع المحادثة بوضوح ودقة.. في بعض الأحيان نساهم نحن في إرباك الطرف الآخر إذا كان موضوع حديثنا معه مبهماً وشديد العمومية..

وواضح أن العموميات تضيّع الغرض وتقطع رأس الحديثـ وخواتيمه فيعيش أطرافه والطريق أمامهم مبهم لا يعرفون من أين يبدأون والى أين ينتهون..

أنظر.. إذا حاورك محدثك هكذا.. (عن الأوضاع الإدارية في العمل مثلاً).

في الواقع لا أعلم من أين أبدأ وبأي موضوع أبدأ والى أي نقطة انتهي..

في الحقيقة أنا لست مستعداً للخوض في هذا الحديث الآن لأنه لا شيء عندي أبدأ به ولا يدور منه شيء في رأسي.

مع هذا الحديث كيف ستجد نفسك؟ وهل ستتمكن أن تتوصل إلى حل؟.

بينما لو حدد موضوع الحديث من أول وبدأ من حيث يبتدأ به في هكذا مواضيع ستجد أن المحادثات مثمرة وتصل في آخر المطاف إلى حلول..

لذلك إذا واجهنا هذا النوع من الحديث هناك طرق تعيننا على توضيحه ورفع الإبهام عنه فيمكننا أن نوجه بعض الأسئلة مثلاً إليه فنقول:

قل لي من فضلك.. ما هي أخبارك الإدارية؟

وهل تشعر بالارتياح في عملك مع مديرك؟

لماذا تشعر بعدم الراحة من مديرك مع أنه إنسان جيد ومتواضع؟

ما هي الخطوات التي ينبغي أن تتخذ لإنجاح الأزمة الإدارية؟

وواضح أن مثل هذه الأسئلة تركز على المهم من جوانب الحديث وتطوقــــه بسور واضح يمنع منه الشطط أو الخروج عن الموضوعية في نفس الوقت الذي يرفع منه الإبهام والغموض وبهذا نكون قد ساعدنا محدثنا على توجيه الحديث وأعطيناه رؤية أوضح وأعمق وأكثر تحديداً عن موضوع المحادثات في نفس الوقت الذي نكون قد وفرنا لأنفسنا جملة من المعلومات الجيدة عن أوضاع الطرف الآخر التي من شأنها أن تعيننا على إدارة الحوار بالشكل الأفضل، وتصل في الآخرة إلى نهاية مرضية لنا جميعاً.

 

الصفحة الرئيسية