التوازن في الشخصية الاسلامية

تأليف: حسين الشامي

الاهداء

تعلمت من أخي العلاّمة الشهيد الشيخ حسين معن ـ كيف يكون الاسلام الهم الدائم في حياة العاملين ... فطويت المسافات أسعى، وحسبي إني على ذات الطريق.

وتعلمت ـ ومنه أيضاً ـ كيف يكون الفكر ينبوع عمل وحركة جهاد لشوط طويل، كان قد قضاه بخطوات واثقة وصبر جميل إلى أن لقى ربه ... وبقيت وحدي أحثُ الخُطى في دربه اللاحب الطويل وما زلت، فباعدني عنهُ شوط المسير ... وبيني وبينه تموت المسافة.

أجل انها أفكار للتامل والحركة والعمل تعلمتها منك يا أبا سجاد يوم كنا ننهلُ من نمير الأب المعلم والشاهد الشهيد الامام محمد باقر الصدر (قدس).

وهي منك أقدمها اليك تعبير عن المحبة وبعض الوفاء ... ويقني انك ترضى وحزني إني لا أسمعك.

أخوك

حسين

بسم الله الرحمن الرحيم

(وَعبَادُ الرّحمـن الذينَ يَمشُونَ عَلَى الأرض هَوناً وإذا خَاطَبَهُمْ الجَاهلون قَالُوا سَلاماً * وَالذينَ يَبيتُـون لرَبهمْ سُجَّداً وقيَاماً * والذينَ يَقُولُون رَبنا اٌصْرفْ عَنَّا عَذابَ جهنَّم إنَّ عَذَابَها كان غَرَاماً * إنَّها سَاءَتْ مُسْتَقَراً * والَّذينَ إذا أنفقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَم يَقْتروا وَكانَ بَيْنْ ذلك قَوَاماً).

الفرقان / 63 ـ 67

(مُحَّمَدٌ رَسُولُ اللهِ والَّذينَ مَعَهُ أشدَّاءُ عَلى اٌلكُفَّار رُحَماءُ بَينهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتغُونَ فَضْلا من الله وَرضْواناً سيمَاهُمْ في وُجُوههم منْ أثَر السُّجُودِ ذَلك مَثلُهُمْ في التَوْراة وَمثَلُهُمْ في الإِنْجيل كَزَرْع أخْرج شَطْئهُ فَازَرَهُ فَاستغْلظَ فَاسْتَوَى على سُوقِهِ يُعْجبُ الزُّرَّاع لِيَغيظَ بِهِمُ اٌلكُفُّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصّالَحِاتِ منْهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيماً)

الفتح / 29

*          *          *

المقدمة

يواجه العاملون في حياتهم الحركية فترات قد تطول أو تقصر تختلف في معالمها الاجتماعية والسياسية عما اعتادوه طوال الأعوام السابقة. وذلك عندما تشتد ظروف المواجهة والعمل السياسي. مما يفرض عليهم التعايش مع الظروف الجديدة بكل ما تحمله من معاناة ومصاعب. كما هو الحال دائماً في ساحات العمل وخصوصاً في ساحات الهجرة التي تشغل منطقة كبيرة في مسار التحرك الاسلامي.

وكان هذا هو بالضبط ما واجهناه في سنوات هجرتنا الطويلة، عندما فرضت علينا الاجواء السياسية والظروف الصعبة أن نغيّر مواقع التحرك، وان ننطلق في صراعنا السياسي من ساحات اضافية جديدة، تختلف في وجوه عديدة عن ساحتنا التي تكونت فيها الشخصية، تبلور فيها الفكر، ونضج فيها الفهم السياسي.

صحيح ان ساحات الهجرة كانت توفر لنا جو الأمن الذي فقدناه هناك في العراق. لكن هذه الميزة لم تشكل بالنسبة لنا امتيازاً اجتماعياً أو سياسياً، بحيث تسكن اليه النفس وتسترخي فيه الأعصاب، لأننا لم نكن نبحث عن اجواء هادئة لتقضية الوقت ولم نرد الابتعاد عن مسرح العمليات الملتهب. لم نكن كذلك. بل كنا نبحث عن المناخ المناسب الذي نستطيع من خلاله استثمار الوقت للدرجة القصوى، لنختصر المعاناة على الذين بقوا هناك داخل الحدود والسجون والخوف. وكنا نريد الدخول إلى مسرح العمليات في قوة جديدة وباستعدادات مناسبة تنسجم مع طبيعة المواجهة الصعبة.

ولا اشك مطلقاً في موضوعية هذا الوصف ودقته. يكفي ان اقول ان الكثير من مجاهدي الحركة الاسلامية عندما هاجروا عن العراق باشروا في تطوير وتصعيد مشروع العمل الجهادي منذ اليوم الأول، ولما تسترح أقدامهم بعد من تعب الرحلة، ولم تسترح أبداً حتى فارقوا الحياة شهداء سعداء مرضيين.

ولقد قدر لي أن أرصد الكثير من هذه الحالات بحكم العمل وفي نفس الوقت أتعذب بذكرياتها وما أزال، فمن ذا الذي يستطيع أن ينسى اخوة كراماً مجاهدين كانت الحياة عندهم زهيدة من أجل عقيدتهم وأمتهم.

وعلى هذا النمط من الظروف ومن اجواء العمل الاسلامي المتلاحق الخطوات، طوينا الثمانينات، مثلما طوينا من قبل سنوات طويلة في خط التغيير الفكري والاجتماعي مع الاوساط الجماهيرية المسلمة بمختلف فئاتها وشرائحها.

لا أريد من خلال هذا الحديث أن أستعرض تجارب الماضي في كلام عن فصول المحنة الرهيبة والمآسي المروعة التي عاشها الشعب العراقي بكل قطاعاته، والمسيرة الجهادية الدامية للحركة الاسلامية. فلست بصدد تسجيل الذكريات عن أحداث الماضي، لكنني استندت في هذا الحديث الخاطف على أساس ان القيمة الحقيقية للفكر الحركي انما تتحد في ضوء التجربة العملية. فالتجربة تخرج الفكرة من اطارها النظري المجرد لتحولها إلى واقع عملي ملموس يتعامل معه الحركيون ميدانياً على الأرض من خلال الموقف والحدث.

وعلى هذا فان الفكر الحركي يتكون عبر تجربة الحركة ومعاناة العاملين، ضمن الدائرة العامة للفكر الاسلامي واصوله وقواعده مما يجعله بعيداً عن الترف وعن النزعة التجريدية. لأن ملامجة وخطوطه الرئيسية تجمعت في فترات زمنية عديدة كانت حافلة بالتعامل المباشر مع الناس والهيئات والاحداث والوقائع، وهي مصادر كبيرة وروافد صافية تثري الفكر الحركي اذا ما درست التجربة برؤية واضحة وروح موضوعية ونظرات ناقدة.

وعلى ضوء هذا أود أن أشير إلى ان هذه الدراسة ـ وغيرها ـ تجمعت في سنوات عديدة على امتداد عقد الثمانينات، وكانت منطلقة من وحي الميدان العملي لتلبية حاجة رأيتها أيامذاك موجودة في الساحات التي تحركت فيها. انها ليست بحثاً نظرياً كتب في جو هاديء ـ مع تقديري لأمثال تلك الابحاث وقيمتها الفكرية ـ بل هي نتاجات مرحلة عشتُ أحداثها ووقائعها بالتفصيل. وقد وجدت أهمية اعادة كتابتها من جديد أملا في أن أقدم مساهمة مخلصة في مجال الفكر الحركي في حياة العاملين وتجاربهم.

وقد وقع اختياري في البداية على هذه الدراسة التي تحمل عنوان (التوازن في الشخصية) لما فيها من أهمية تمس حياة العاملين للاسلام في كل فترة من فترات العمل، لا سيما في ظروف المحنة. فالموضوع يتحرك على منطقة واسعة من حياة الانسان المسلم تشمل دائرته الداخلية المتعلقة بالنفس وأهوائها وأنفعالاتها، وكذلك المحيط الذي يتعامل معه. فهو يغطي تفكير الانسان وسلوكه بكل التفصيلات الكثيرة والمعقدة المتفرعة عن التفكير والسلوك.

إن سعة المساحة التي تندرج تحت عنوان (التوازن) تجعلنا نسير في أكثر من اتجاه في حياة الانسان المسلم من أجل أن نعطي في النهاية الصورة المتزنة للشخصية الاسلامية كما أرادها الله تعالى وهي مهمة صعبة وشاقة، لا لأن اعطاء المنهج الاسلامي في هذا الاتجاه عملية مطولة في ضوء التعقيدات الحياتية والاجتماعية والسياسية، بل لأن تحقيق التوازن الشخصي من أصعب المهمات التي يواجهها الانسان. فرغم وضوح الطريق الذي رسمه الاسلام، إلا أن المسلم تحركه رغباته وأنفعالاته النفسية فتحيد به عن طريق الطاعة والحق، وتدخله في مسارات تبتعد عن المنهج الاسلامي في المشاعر الداخلية وفي السلوك العام مع الآخرين.

وحين تطرح هذه المسألة للبحث فاننا نحاول أن ندرس الموضوع من أبعاده الحركية المرتبطة بالانسان وعلاقته بمجتمعه، باعتباره يحمل رسالة الاسلام، ويتحمل واجب التعامل مع هذه الرسالة بما أمرت به احكامها وتعاليمها الربانية.

وبعبارة اخرى، اننا نحاول أن نستقريء المنهج الاسلامي لنقدم الصورة التي يجب أن يكون طبقها الانسان العامل وهو يمارس دوره الرسالي وسط الامة، ويواجه أهواء النفس وتحديات الميدان السياسي والاجتماعي.

للوهلة الاولى قد يشير عنوان (التوازن في الشخصية) إلى معادلة ثنائية الاطراف يراد تحقيق التكافوء بين طرفيها حتى لا يحدث خلل في الموازنة، فيكبر الأول على حساب الثاني، وبذلك تختل الموازنة وتفقد الشخصية توازنها.

إن هذا الفهم الرياضي لتوازن الشخصية لا يمتلك قيمة علمية موضوعية، لأن الأتزان في مجال الشخصية لا يأخذ بُعداً ثنائياً، لأن الانسان كيان متعدد الابعاد يتوزع على اتجاهات ومجالات عديدة تغطي كل آفاقه، سواء ماانكشف منها عبر الممارسة والاحتكاك مع المجتمع، أو ما خفي في داخل الذات.

إن إتزان الشخصية عملية تسير في أبعاد مختلفة تشمل كل حياة الانسان وميادين تركاته، وعليه أن يعطي لكل بعد من هذه الابعاد حقه الطبيعي، ليجعل شخصيته قائمة على الاسس السليمة وفق ما رسمه الاسلام، وما أراده من الانسان في علاقاته مع الله.. ومع نفسه وفي سلوكه الخاص وفي علاقته بمجتمعه.

وعلى هذا فان حديثنا عن توازن الشخصية يتوزع على الاتجاهات الثلاثة التالية:

1 ـ التوازن في اطار الشخصية.

2 ـ التوازن في الدائرة الاجتماعية.

3 ـ التوازن في مجال العمل الحركي.

وقد شعرت بأهمية هذه المحاور وحاجة الانسان العامل اليها في حياته العملية، مما يدفعني إلى التأكيد على ضرورة تأمل تجارب العمل الاسلامي يمختلف مستوياته وساحاته ومواقعه، ودراسة هذه التجارب دراسة موضوعية ناقدة من أجل إثراء المسيرة الاسلامية من أبعادها المختلفة. وترشيد الخط الاسلامي في خطواته العملية من قبل العاملين للاسلام.

أسأل الله تعالى أن يحقق من وراء هذا الجهد خدمة للعاملين من أجل الاسلام، وأن يتقلبه خالصاً لوجهه الكريم.

(والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا)

حسين الموسوي الشامي

شوال 1411 هـ

لندن

الفصل الأول .. التوازن في إطار الشخصية

تمثل نفس الانسان الاطار الاساس الذي يحدد معالم شخصية الانسان، فهي التي تجعل منه شخصية متزنة تتفاعل مع المحيط الاجتماعي بمرونة وحركية ونجاح وهي في مقابل ذلك قد تجعله انساناً مضطرباً مرتبكاً يتحرك بوحي الانفعالات والمشاكل النفسية، فيعتزل الحياة، ويتهرب من المجتمع. أو انه يبادل الحياة والناس نظرة عدائية متشائمة.

ودائرة النفس من المجالات الواسعة التي خضعت لدراسات مطولة من قبل الاختصاصين في علوم النفس والتربية والاجتماع. ورغم سعة النتاج الفكري في هذه الحقول، إلا أن النفس تظل عالماً غامضاً يصعب فك اسرارها، لأن الحل الحقيقي بيد الانسان نفسه. فلقد وهبه الله سبحانه من العناصر الذاتية ما يمكنه أن يجعل من نفسه شخصاً سوياً سوياً متوازناً. وحدد له سبحانه خطوات الطريق القويم ليسلكه في استقامة وهدى. حيث بين له أبعاد كل حركة فيه وكل خطوة من خطواته، وترك له حرية الاختيار، فأما أن يتملك الارادة ويسلك نهج الهدى، واما أن يفقدها فيضيع في الضلال (إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً)(1).

ولا تكفي الارادة وحدها لأن تخلق من الانسان شخصية متوازنة، بل لابد من منهجية دقيقة يسير على ضوئها في علاقته بالله تعالى ومع نفسه ومع محيطه. وكل ذلك فصله الاسلام في تعاليمه، ووضعه أمام الانسان ليربي نفسه وليجعل منها كياناً متوازناً يعيش الحياة والرسالة (وإن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه)(2).

___________________________________

(1) سورة الدهر: 3.

(2) سورة الانعام: 153.

وفي هذا المنهج التربوي الاسلامي نلتقي اولا مع الخطوة الاساسية الأولى، وهي علاقة الانسان بالله تعالى. فالايمان به سبحانه هو المرتكز الأكبر في الشخصية الاسلامية وهو المقياس الذي يحدد مدى استعداد الانسان المسلم لتحقيق النجاح الشخصي مع نفسه ومجتمعه. فكلما ارتفع في هذا المقياس كلما أقترب من الصورة المثالية للشخصية المتزنة. وقد وردت الكثير من الآيات الكريمة والاحاديث الشريفة التي تبين قيمة الايمان، وأثره في الشخصية وفي الحياة وما يترتب عليه من نتائج كبيرة على المستوى الفردي والجماعي.

(ولو أنهم آمنوا واتقّوا لمثوبةٌ مِنْ عِند الله خيرُ)(1)

(فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلُهُم في رحمة منهُ وفضل ويهديهم إليهِ صراطاً مستقيماً)(2).

وعن الامام علي عليه السلام: (المرءُ بايمانه)(3)

وعن الامام الصادق عليه السلام في قوله تعالى: (هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين). قال: هو الايمان. وفي قوله تعالى: (وأيدَّهم بروح منه) قال: هو الايمان. وفي قوله تعالى: (وألزمهم كلمة التقوى). قال: هو الايمان(4).

ان الايمان هو القاعدة الاساسية التي يقام عليها البناء الشخصي ولذلك حرص الاسلام على تربية الانسان تربية ايمانية صحيحة ليصنع منه الانسان الرسالي الذي تعيش الرسالة في أعماقه، ويمارس دوره في الحياة وفق خط تصاعدي لا إهتزاز فيه. فهو يريد الانسان ان يكون سوياً مستقيماً مع نفسه ومع غيره، وهذا ما لا يحقق إلا بالتوافر على الرصيد الايماني الضخم الذي يمنح الانسان قوة الثبات وقدرة الصمود

___________________________________

(1) سورة البقرة: 103.

(2) سورة النساء: 175.

(3) غرر الحكم: 15.

(4) اصول الكافي 2: 13.

أمام الاهواء والاغراءات الذاتية.

فالايمان هو الذي يجعل الانسان متزناً يواجه الحياة بقوة وتتحول عنده المتاعب والمعاناة إلى متعة في سبيل الله فيعطي لها وعي وارادة لمواجهة كافة الظروف والتحديات الصعبة.

(ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين)(1)

فالايمان شرط اساسي لتحقيق حالة العلو والنصر والغلبة، وعدم الانهيار امام الهزات الطارئة.

ويصف الامام الصادق عليه السلام المؤمن بقول:

(ينبغي للمؤمن أن يكون فيه ثماني خصال: وقوراً عند الهزاهز، صبوراً عند عند البلاء، شكوراً عند الرخاء، قانعاً بما رزقه الله، لا يظلم الأعداء، ولا يتحامل للاصدقاء، بدنه منه في تعب والناس منه في راحه، إنَّ العِلمَ خليلُ المؤمن، والحلمُ وزيُرهُ، والعقل أميرُ جنوده. والرفق أخوهُ، والبرّ والدهُ)(2).

________________________________

(1) سورة آل عمران: 139.

(2) اصول الكافي 2: 39.

بين الايمان والعمل

لا ينحصر الايمان في جو نفسي معزول عن الحياة، بل هو الدافع الأكبر للتحرك وسط الحياة وللتفاعل الواعي والهادف مع أجزائها ومفرداتها. مع الناس والمواقف وهذا ما نقرأه في الكثير من النصوص الاسلامية التي قرنت الايمان بالعمل في علاقة عضوية متداخلة.

(إنْ الذينَ آمنوا وعملوا الصالحات لهْم جنات)(1).

___________________________________

() سورة البروج: 11.

(وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكُم عندنا زُلفى إلاّ منْ آمن وَعَمِلَ صالحاً)(1).

(ومنْ يأته مؤمناً قد عَمِلَ الصالحات فأولئك لهم الدرجات العُلى)(2).

وعن الرسول (ص):

(الايمانُ عقدٌ بالقلبِ، ونطقٌ باللسان، وعملٌ بالاركانِ)(3).

وعن الامام علي (ع):

(الايمانُ والعملُ أخوان توأمان ورفيقان لا يفترقان، لا يقبلُ الله أحدهما إلا بصاحبه)(4).

وعن الامام الصادق (ع):

في قول الله عزّ وجل: (ومنْ يكفرُ بالايمان فقد حبط عملهُ)قال: (كفرهُم به، تركُ العملِ بالذي أقرّوا به)(5)

وعنه أيضاً (ع):

(ليس الايمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن الايمان ما خلص في القلوب وصدّقته الاعمال)(6)

ان هذه النصوص تبين لنا الترابط العضوي بين الايمان والعمل، مما يكشف عن الدور الكبير للعمل في الحياة الايمانية، فالانسان لا يكون مؤمناً ما لم يقترن ايمانه بالعمل الصالح. وبذلك فان الايمان لا يأخذ قيمته الايجابية وصفته الصحيحة فيما لو

___________________________________

(1) سورة سبأ: 37.

(2) سورة طه: 75.

(3) أمالي الطوسي 2: 64.

(4) غرر الحكم: 55.

(5) المستدرك 2: 274.

(6) تحف العقول: 272.

تجرد عن العمل. إذ سيتحول إلى قيمة مهملة، كما مرّ في حديث الامام علي عليه السلام.

وفي مقابل ذلك فان العمل لا يكون إلا من خلال الايمان، فهو أيضاً يصبح قيمة سلبية مهملة فيما لو فقد صاحبه الجانب الايماني، لكنه يتحول إلى قيمة كبيرة إذا ما سبقه الايمان، وكان منطلقاً من قلب مؤمن بالله تعالى.

وهكذا فان الاسلام يريد من الانسان ان يحقق التوازن في مجال العلاقة مع الله تعالى فيكون مؤمناً به ايماناً صادقاً خالصاً، وفي نفس الوقت عاملا في سبيله بصدق واخلاص، من أجل أن تكون شخصيته اسلامية صالحة تنفع الاسلام والمسلمين، وترتفع في هذه الاجواء الايمانية نحو درجات التكامل.

ان الاسلام يعتبر ان اي اختلال في هذه العلاقة من شأنه أن يضعف محصلتها النهائية، ومن ثم تفقد الشخصية روحيتها الاسلامية، بل انها تبتعد عن منهج الاسلام فيما لو فقدت أحد العنصرين (الايمان أو العمل).

وعندما نطبق هذا المفهوم الاسلامي على الواقع، فاننا نستطيع ان نكتشف الآثار السلبية لاختلال التوازن في هذه العلاقة. فلو ان المسلم تحرك ميدانياً ودخل ساحة العمل بدون الرصيد الايماني المطلوب فانه لا يكون عاملا للاسلام، لأن اعماله ستكون صادرة من رغبات ذاتية يريد من ورائها أن يُلبي حاجة النفس واهواءها، وإن كان مظهرها اسلامياً. وهو سيصطدم حتماً بالمصلحة الاسلامية، لأن هذه المصلحة لا تحقق رغباته الذاتية، مما يجعله يتجاوز مصلحة الاسلام ويُسيء إلى العمل الاسلامي إرضاءً لرغباته وأهوائه. وبذلك بدل أن يكون عنصر عمل صالح، فانه سيتحول إلى مصدر إفساد وازعاج داخل الوسط الاسلامي أو المجتمع بشكل عام.

وقد ابتلي واقعنا بالكثير من هذه الحالات، لاسيما في أجواء العمل السياسي، حيث تبرز الذات الشخصية بشكل مؤثر على الانسان العامل، فيسقط ضحية الاغراء، وينسى دوره الرسالي المطلوب، وينقلب إلى أنسان يتخذ من جو العمل الاسلامي عنواناً يخفي تحته رغباته وتطلعاته الشخصية.

وربما تتعاظم عنده هذه الحالة فيكون هدفه الذات وليس الاسلام، وذلك عندما يضعف الجانب الايماني في داخله، ويقترب من الدرجات المتدينة، وهنا سيصبح عنصر ضرر فادح في جسم التحرك الاسلام ومجتمع المسلمين.

ان مثل هذه الحالات هي من الكثرة بحيث لا يخلو مجتمع أو حركة اسلامية منها، لأنها لا ترتبط بالاعتبارات الاقليمية أو القومية أو ما شاكلها. انها تتصل بالجانب النفسي للانسان أينما كان ومتى كان.

وهذه الحالات من الكثرة بحيث ان لها درجات متفاوته الشدة والضعف. فهناك من يسقط اسيراً لها على طول خطه العملي، وهناك من يضعف لفترات قصيرة ثم يكتشف نفسه فيعود إلى صوابه، وهناك بينهما درجات مختلفة.

ان العاملين للاسلام هم موضع ابتلاء بصورة يومية، لأنهم يتعاملون مع الحياة بكل ما فيها من اغراءات وتطلعات والسعيد من راقب نفسه وميّز بين ما هو اسلامي وبين ما هو ذاتي، وسخّر كل طاقاته وجهوده من أجل الاسلام ومصلحته، وعمل مخلصاً ابتغاء وجه الله الكريم.

هذه هي الخطورة التي تهدد الانسان العامل حين يضعف عنده الجانب الايماني، وفي مقابلها يقف النموذج الآخر، الانسان الذي يؤكد على البناء الايماني وحده ويترك العمل.

في هذا الخصوص لا بد من القول ان هذا الاتجاه، يعبر عن فهم خاطيء للاسلام، لأن معنى الايمان لا يتحقق بدون العمل، كما اشارت إلى ذلك الآيات القرآنية والاحاديث الشريفة الورادة عن الرسول وأهل بيته عليهم السلام.

فمثل هذا الانسان يتصور انه يسلك طريق الصلاح، لكنه في الحقيقة يسير في طريق آخر. فالله تعالى لا يريد من عبده أن يعيش العزلة، وأن ينقطع عن الحياة والناس. انه كانسان، يحمل رسالة كبيرة، وهو خليفة الله في الأرض، وعليه مسؤولية النهوض باعباء الرسالة والخلافة.

لقد جاء الاسلام رسالة انسانية عامة شامة، ولابد من نهوض المسلمين باعبائها، لتأخذ مكانها المطلوب في الحياة. ولا يمكن تصور الاسلام يحكم الحياة من دون أن يحمل رسالته ابناؤه.

وإذا كانت الحالة السابقة التي تتمثل في ضعف الجانب الايماني تشكل خطراً على العمل الاسلامي، فان ترك العمل والابتعاد عن ميدان الحياة هي حالة خطر أخرى. لانها تستفرغ من الاسلام رسالته الحقيقية وتحول الانسان إلى رقم مهمل في الحياة لا يؤثر فيها ولا يتعامل مع مفرداتها الكبيرة والكثيرة. انها تلغي المهمة التغييرية التي يتحلمها الانسان المسلم في حياته وسط مجتمعه وفي مواجهه اعداء الاسلام.

ومما يلفت النظر ان العديد من العاملين للاسلام، يقعون ضحية هذا الفهم الخاطيء في مرحلة من مراحل العمل. فعندما تطول بهم المحنة أو عندما يواجهون العقبات الكبيرة التي تعترض طريق المسيرة يصابون بانتكاسه كبيرة تفقدهم توازنهم، فيبتعدون عن أجواء التحرك ويتعزلون ساحة العمل، على اساس أن لا جدوى من العمل وان الميدان السياسي يُفقد الانسان طهارته ويلوث نفسه فيبعده عن الله سبحانه وعن الاسلام وعن الطريق المستقيم، وان من الأفضل الانقطاع عن مداخلات التحرك، والابتعاد عن الساحة، ليحافظ الانسان على ايمانه ونقاوته وطهارته.

وقد يبرر البعض مواقفه هذه بالقول ان الظروف الاجتماعية والسياسية لا تساعد على المضي في المسيرة وانها فتنة يجب الابتعاد عنها في انتظار الاجواء المناسبة التي لا تلوث الانسان ولا تسلبه تقواه وايمانه.

لقد عشنا هذه الحالات عن قرب وعاشها كل العاملين في سبيل الله في الساحات الاسلامية، وفي فترات زمنية مختلفة. حيث يترك بعض العاملين مواقعهم الحركية ليعيشوا العزلة في زوايا منقطعة عن الحياة في واقعها العملي والسياسي.

ويعتقد هؤلاء انهم يحققون بذلك ايمانهم، لكنهم في الحقيقة ينقصون من هذا الايمان، لأنهم يشطبون على توأمه الآخر، وهو العمل كما في حديث الامام عليه السلام:

(الايمان والعمل أخوان توأمان، ورفيقان لا يفترقان، لا يقبل الله أحدهما إلا بصاحبه)..

أو انهم يكفرون بالايمان كما في حديث الامام الصادق عليه السلام عن قوله عزّوجل (ومن يكفر بالايمان فقد حبط عمله). قال: (كفرهم به، ترك العمل بالذي أقرّوا به).           إن الاسلام يرفض أن يكون الايمان مجرداً عن العمل كما أنه يرفض العمل الذي لا يستند على الايمان، انه يريد تفاعل الاثنين معاً لانهما يرتبطان في علاقة عضوية متلازمة. فالاسلام يريد الانسان أن يكون مؤمناً عاملا في نفس الوقت حتى يصبح الانسان الداعية الذي يتحرك في الحياة من أجل خدمة الاسلام ومصالحه، وخدمة المسلمين ومصالحهم.

البناء الثقافي

من المقومات الاساسية في شخصية الانسان، المستوى الثقافي الذي يمتلكه ومع تطور الحياة وتنوع اغراضها أصبح للثقافة دور أساسي في حياة الانسان، بحيث أنه لا يستطيع أن يواكب حركة المجتمع ما لم يتمتع بحصيلة ثقافية مقبولة.

ولا نريد هنا أن نسرد الأدلة على ضرورة المستوى الثقافي للانسان المسلم، باعتبار ان ذلك من البديهيات التي يعرفها الجميع، لكن ما نحاول دراسته في هذا الموضوع هو صلة الثقافة بالتوازن الشخصي، والنظرة الخاطئة من البعض حول التعامل مع الثقافة والتي تشكل خللا في الشخصية وذلك من خلال المشاهدات الميدانية لمثل هذه الحالات.

في البداية لا بد من التعرف على نوعية الثقافة التي يحتاجها الانسان الرسالي في حياته العملية والاجتماعية، وهو يمارس دوره كعامل في سبيل الله تعالى.

ان مهمة العاملين للاسلام تتمثل في تغيير الناس على اساس الاسلام، وهذه مهمة تتسع آفاقها لتشمل كل شرائح المجتمع، ولتحتك بكل الظروف والمؤثرات الاجتماعية والفكرية والسياسية. مما يفرض على العاملين ان يمتلكوا ثقافة واسعة بسعة ميدان العمل الاسلامي اذ لا يمكن ان ينجح الاسلوب التغييري ما لم يستند على تصورات مسبقة حول المجال الذي يستهدفه فاذا كانت التصورات تحيط به من كل أبعاده، أمكن للاسلوب أن يأتي متكاملا. أما اذا عانى من قصور الاحاطة فان من الصعب أن يوفر عناصر النجاح المطلوبة، وان يبلغ هدفه بالشكل الصحيح.

ولا نقصد بالاحاطة التوافر على دراسة كافة الجزئيات والتفصيلات في حياة الناس وفي مجالات الحياة، لأن ذلك هدف كبير لا تتيح الظروف للانسان العامل ان يحيط به لكن ما نقصده هي أهمية التمتع بمستوى ثقافي عام يعين الانسان على فهم الحياة في مجالاتها السياسية والفكرية والاجتماعية. كما ان من الضروري إلى جانب الثقافة العامة، إمتلاك المستوى التخصصي في حقل من حقول الحياة.

واضافة إلى ذلك، فان طبيعة الحياة الاجتماعية تفرض على الانسان ان يحتك بمفرداتها وحركاتها، والمطلوب منه كانسان رسالي ان لا يمر على الاشياء دون أن يرصد كل موقف يمر به وان يدرس كل ظاهرة يواجهها وان يتفكر في كل جزء من أجزائها، من أجل أن يجعل الموقف والحدث والظاهرة مصدراً من مصادر ثقافته فيحيط بظروف الامة وعوامل التأثير فيها، ونقاط قوتها وضعفها. وبذلك يمتلك رصيداً من الثقافة العملية أو ما يصطلح عليه بالحس الاجتماعي.

إن الترابط بين الثقافة وبين الخبرة الاجتماعية من المسائل الاساسية لنجاح مهمة الانسان الرسالي. فلا يكفي أن يمتلك رصيداً ثقافياً حول المجتمع، بل ان هذا الرصيد قد يسبب له إرباكاً واضطراباً في تحركه ما لم يمتزج بالحس الاجتماعي اذ ان المفهوم النظري لا يكفي وحده لأن يجعلمن الشخصية الحركية شخصية مؤثرة ناجحة في عملها.

ولقد بينت لنا تجارب العمل أن العديد من العاملين فشلوا في مهمتهم التغييرية واصيبوا باحباط نفسي كبير، لأنهم وجدوا ان ثقافتهم الواسعة لم تحقق أثراً عملياً والسبب الحقيقي هو ضعف الحس الاجتماعي عندهم، حيث كانوا يفكرون ويعملون وفق ما يختزنونه من رصيد نظري حول المجتمع.

وإلى جانب هذه الحالة هناك من يتمتع بحس اجتماعي جيد لكنه يفتقر إلى الثقافة العامة، ويبرر ذلك بان العمل الاسلامي مع الناس لا يحتاج إلى مستوى ثقافي كبير، لأن عامة الناس لا يمتلكون مثل هذا المستوى.

ان هاتين الحالتين وإن كانتا متعاكستين إلا انهما يمثلان خللا في فهم الدور الرسالي والابعاد الحقيقية للثقافة، الأمر الذي يجعل من الشخصية غير متوازنة في المجال الثقافي.

كما ان هناك حالات اخرى تندرج ضمن ظاهرة الخلل هذه. حيث نجد ان بعض العاملين يميلون الى حقل خاص من الثقافة ينسجم مع طموحاتهم الخاصة وولعهم الفكري، فيجهدون أنفسهم للتثقف في هذه الاتجاهات التي لا تخدم التحرك الاسلامي ولاتمس واقع الحياة العملية، انما هي من باب الترف الفكري.

ان الداعية إلى الله لا بد أن ينطلق في تحصيله الثقافي من تقديره لحاجة التحرك الاسلامي إلى الثقافة وليس من خلال ما يحب ويكره.

ولقد ورد في أحاديث أهل البيت عليهم السلام ما يعالج حالات الخلل، وما يحدد منهج الثقافة للانسان المؤمن، بما يخدمه ويخدم رسالته. ومن خلال تلك الاحاديث يمكن أن نقدم اسس الثقافة الصحيحة التي يحتاجها الانسان المؤمن لبناء شخصيته الرسالية، وبالشكل الذي يساهم في تحقيق توازنها:

1 ـ لا ينفصل التحصيل الثقافي عن الجانب الايماني، فبدون الايمان تتسرب إلى نفس الانسان الاهواء والنزعات الشريرة، فتجعله يحيد عن الهدف الصحيح من وراء التحصيل الثقافي. حيث يصبح العلم وسيلة دنيوية لخدمة الذات. وهذه من المخاطر الكبيرة التي يواجهها الانسان في حياته الثقافية.

لقد حرص الاسلام على تنفية النفس من كل شوائب الذات. وفي مجال التثقيف الشخصي أكدت تعاليم الاسلام على ضرورة الانطلاق من القاعدة الايمانية الحقيقية فيكون محفز الانسان على زيادة ثقافته نابعاً من احساسه العميق باهمية الثقافة من أجل خدمة الاسلام والمجتمع الاسلامي، كوسيلة من الوسائل التي تحتاجها الدعوة إلى الله.

يقول الرسول (ص):

(يا ابن مسعود، من تعلّم العلم يريد به الدنيا وآثر عليه حُب الدنيا و زينتها  استوجب سخط الله عليه، وكان في الدرك الاسفل من النار)(1)

ويقول الامام علي (ع):

(وإياكم أن تطلبوه لخصال أربع: لتُباهوا به العلماء، أو تُماروا به السُّفهاء، أو تراؤوا به في المجالس، أو تصرفوا وجوه الناس إليكم للتروس)(2).

وهكذا فان المنطلق الاول لكسب الثقافة هو موضع ابتلاء كبير للانسان، ويأخذ هذا المنلطق شكلا منحرفاً فيما لو فقد الاساس الايماني الذي يستند عليه. فمن غير التوافر على البناء الايماني الصحيح، فان الاهواء الذاتية ستدخل في المنهج الثقافي لتجعله محاولة ذاتية تخدم الشخص ولا علاقة لها بالاسلام والحياة الاسلامية.

2 ـ اعتماد الثقافة التي تمس الواقع وتحقق للانسان قوته الاجتماعية بابعادها المختلفة. فليس كل مجال للمعرفة فيه فائدة للبنية الفكرية للانسان، فهناك مجالات

___________________________________

(1) مكارم الاخلاق: 528.

(2) الارشاد: 111

يتساوى فيها الانسان سواء عرفها أو جهلها، فهي خارجة عن دائرة الحياة العملية وعن نطاق الثقافة البناءة، بحيث لا تصلح إلا للترف فحسب.

عن الامام الكاظم (ع) قوله:

(دخل رسول الله (ص) المسجد فاذا جماعة قد أطافوا برجل. فقال: ما هذا ؟ فقيل: علاّمه. فقال: وما العلاّمة ؟ فقالوا له: أعلم الناس بانساب العرب ووقائعها وأيام الجاهلية والاشعار العربية فقال النبي (ص): ذاك علم لا يضرُّ من جهله ولا ينفع من علمه. ثم قال النبي (ص): إنما العلمُ ثلاثةٌ آية محكمة، أو فريضة عادلة، أو سُنةٌ قائمة. وما خلاهن فهو فضل)(1)

وعن الامام علي (ع):

(واعلْم انه لا خير في علم لا ينفع، ولا ينفع بعلم لا يحقُّ تعلّمهُ)(2)

فلا بد للثقافة من منهجية يعتمدها الانسان، فيحدد حاجاته للتحصيل العلمي سواء ما يتصل بدوره التغييري أو مهمته الاجتماعية والسياسية. فمن العبث أن يتجه في المجالات الثقافية لأجل تحقيق رغباته النفسية والتي لا علاقة لها بحركته وواقعته.

وهذا ما عبر عنه الامام علي عليه السلام بقوله: (الفكر في غير الحكمة هوس)

ويشير هذا الحديث إلى تهذيب الاتجاه الثقافي للانسان فلا فائدة في كسب الثقافة، اذا ما فقد الانسان الحكمة، انها ستتحول إلى مجرد معلومات ارشيفية يختزنها في رأسه دون أن ينتفع بها أحد، ودون أن يعكسها على الواقع العملي.

___________________________________

(1) اصول الكافي 1: 32.

(2) نهج البلاغة: 910.

3 ـ وقد ينساق الانسان في اتجاه واحد من الثقافة بحجة انه لابد من التخصص في ميدان محدد، على اعتبار ان الاحاطة بالمعارف الانسانية عملية صعبة أو مستحيلة ولذلك يقضي مثل هذا الانسان عمره في اتجاه واحد متوسعاً إلى درجة الترف.

ان التخصص منهج علمي وهو مطلوب في الحياة الثقافية لكن التخصص لا يعني الاستغراق في المجال الثقافي المحدد، والدخول في تفصيلات وآفاق جزئية تبتعد عن واقع الحياة، وبالمستوى الذي يستهلك كل جهوده الفكرية، فلا يستطيع أن يثقف نفسه في المجالات الاخرى من الفكر والثقافة.

ان سوء فهم التخصص يفرط من الطاقات الفكرية. لاسيما وان البعض تطرف في مفهوم التخصص، حتى صار يجهل المجالات الثقافية الواسعة مما هي خارج دائرة تخصصه. ولعل البعض لم يعد يفهم من الحياة إلا بمقدار ما يتصل بحقله الخاص. بل انه قد يحكم على الناس من خلال مستواهم الثقافي في هذا الحقل.

ولا نحتاج إلى أدلة لأثبات سلبية هذا التوجه. فهو يعزل صاحبه عن الحياة والمجتمع، لأنه لا يستطيع ان يتفاعل معها ومع الناس إلا في حدود تخصصه، وهو ما يلتقي مع عدد محدود من ابناء المجتمع بطبيعة الحال.

ان التخصص مسألة متفق عليها، خصوصاً وان الاحاطة بالمعرفة من كل جوانبها عملية غير ممكنة. لكن التخصص لا يعني الابتعاد عن الآفاق الثقافية والانسانية الاخرى، إذ لا بد للانسان من ثقافة عامة بالمستوى المعقول.

يقول الامام علي (ع):

العِلمُ أكثر من أن يُحاطُ به فخذوا من كل علم أحسنه)(1)

4 ـ واستكمالا للنقطة السابقة، فان التخصص يجب أن يخضع لمقياس الحاجة إلى حقل التخصص. فحتى لو ضمن الانسان استحصال الثقافة العامة، فان ذلك لا يبرر

___________________________________

(1) غرر الحكم: 42.

له ان يتخصص في حقل بعيد عن حاجة العمل الاسلامي أو الاجتماعي أو السياسي، لأن الاساس في تحصيل الثقافة هو تحديد الحاجة اليها والدور المطلوب منها سواء على صعيد الفرد أو الجماعة. وان الثقافة العامة ليست واجباً اسقطه الانسان فاصبح بميسوره ان يسلك اتجاهاً ثقافياً ينسجم مع هوايته ورغبته. ان الاسلام يضع قاعدة الفائدة من الثقافة كمقياس عام ثابت في توجهات الانسان الثقافية على مستوى التخصص او الاحاطة العامة بالمعارف والمجالات الحياتية.

يقول الامام علي (ع):

(أحسنوا النظر فيما لا يسعكُم جهلهُ، وانصحوا لانفسكُم وجاهدوها في طلب معرفة لا عذر لكم في جهله فان لدين الله أركاناً لا ينفعُ من جهلها شدةُ إجتهاده في طلب ظاهر عبادته، ولا يضرُّ من عرفها فدان بها حُسن إقتصاده، ولا سبيل لأحد إلى ذلك إلا بعون من الله عزَّ وجل).

ويقول الامام الكاظم (ع):

(أولى العلم بك ما لا يصلُحُ لك العمل إلا به، وأوجب العمل عليك ما أنت مسؤول عن العمل به، وألزم العلم لك ما دلَّك على صلاح قلبك وأظهر لك فساده، وأحمدُ العلم عاقبة مازاد في علمك العاجل، فلا تشتغلن بعلم لا يضُرك جهله، ولا تغفلن عن علم ما يزيد في جهلك تركه).

الفصل الثاني .. التوازن في الدائرة الاجتماعية

إهتم الاسلام كثيراً بعلاقة المسلم مع مجتمعه، فقد حدد في تعاليمه ومناهجه الالهية، الصيغ المطلوبة لهذه العلاقة التي تهدف الى تعزيز الرابطة الاجتماعية بين المسلمين وصناعة المجتمع الاسلامي المتماسك في علاقاته وأسسه وعناصره.

وقد رسم الاسلام خطاً تصاعدياً في هذا الخصوص، يبدأ من الانسان ثم ينتهي بالمجتمع وخلال هذا الشوط الطويل يتحمل الانسان المسلم المسؤولية الكبرى في توفير مستلزمات الحياة الاجتماعية المطلوبة. فالفرد لا ينفصل في تصرفاته وسلوكه عن المحيط الذي يعيش فيه. فهو وحدته الاسياسية. وقد تتحول هذه الوحدة إلى عنصر بناء أو ربما تصبح عامل هدم. وفي كلتا الحالتين يرتبط السلوك الفردي بالحصيلة الاجتماعية للمحيط الذي يعيش فيه.

في البداية نقف مع الانسان المسلم في علاقته مع مجتمعه لنتعرف على ملامح الانسان الذي يريده الاسلام في هذا الشأن.

لقد حرص الاسلام على موقع الانسان في المجتمع لذلك أكد على الترابط الميداني بينه وبين مجتمعه فالانسان لا يملك ان ينعزل عنه ويبتعد عن مجاله، انه جزء منه وعنصر فيه، وعليه يتفاعل مع ويسير في حركته عاملا ومؤثراً.

فالاسلام يحفز دائماً الحس الاجتماعي عند المسلم، ويضعه امام واجبه الكبير تجاه المسلمين. حيث يؤكد على الرابطة الوثيقة بينه وبينهم والتي لا يمكن أن تنقطع مادام الانسان يتمسك بتعاليم الاسلام واحكامه. بل ان الاسلام شدد على هذه الرابطة بقوة، بحيث اعتبر ان من يتخلى عن جماعة المسلمين يكون بمثابة المتخلي عن الاسلام.

فعن الرسول (ص): (منْ فارق جماعة المسلمين فقد خلع ربقة الاسلام من عنقه) قيل: يا رسول الله وما جماعة المسلمين ؟.

قال: (جماعة أهل الحق وان قلوا)(1)

وعن الامام الصادق (ع):

(منْ خلع جماعة المسلمين قدر شبر خلع ربقة الايمان من عنقه)(2).

ان هذا التأكيد على ملازمة الجماعة، انما من أجل حفظ المجتمع الاسلامي كخطوة أولى، وعدم إفساح المجال امام محاولات التفتيت والاضعاف. وفي كل واحد من هذين الاتجاهين يمثل الفرد المسلم العنصر المؤثر بالدرجة الاولى سواء في عملية الحفاظ على الجسم الاجتماعي للمسلمين، أو في عملية الاضعاف والتفتيت.

وليس المقصود بملازمة الجماعة ان يساير الانسان المسلم مجتمعه في كل اموره وعاداته وسلوكياته. فهناك مظاهر تتعارص مع الاخلاق الاسلامية، لكن المقصود هو التعايش مع أهل الحق من المسلمين والتفاعل معهم وعدم تركهم أو الانعزال عنهم.

كما انه لا معنى لأن تكون العلاقة مع الآخرين باردة خالية من التفاعل الايجابي، فالحياة الاجتماعية تتطلب ان يتحسس عمق الارتباط مع جماعته وحرارة العلاقة معهم. انها علاقة عطاء وتفاعل، يحتاج فيها الفرد إلى الجماعة مثلما تحتاج الجماعة إلى

___________________________________

(1) أمالي الصدوق: 297.

(2) الوسائل 5: 377.

الفرد وهذه حقيقة اجتماعية عامة، أوضحتهاالكثير من الاحاديث الشريفة عن الرسول (ص) وأهل بيته من الأئمة عليهم السلام، فقد نهوا عن الابتعاد عن الآخرين، وذّموا الاحاسيس الفردية التي تحاول ان تبعد صاحبها عن التفاعل مع الناس في محيطهم الحياتي.

فقد روي عن الامام السجاد عليه السلام، انه سمع رجلا قال بحضرته: (اللهم اغنني عن خلقك).

فقال له عليه السلام: (ليس هكذا. انما الناسُ بالناس، ولكن قل: اللهم اغنني عن شرار خلقك)(1).

وعن الامام الصادق عليه السلام: (انه لا بد لكم من الناس. إن أحداً لا يستغني عن الناس حياته، والناس لابد لبعضهم من بعض)(2).

ثم يتقدم الاسلام بعد ذلك بالانسان خطوة أخرى على طريق العلاقة الاجتماعية، حيث يسعى إلى تجريده من مشاعر البغضاء والكراهية، وينتزع من قلبه الاضغان والاحقاد، وذلك عن طريق بيان الترابط الوثيق بينه وبينهم، فلا يكفي أن يكون الانسان موجوداً وسط الجماعة، ولا يكفي ان يحتك مع الناس في مسائل الحياة، فربما كان احتكاكه مبعث الكثير من الأزمات. فمن طبيعة الحياة والعمل مع الآخرين ان تتعرض العلاقة لأزمات متفاوته الحدة، بتأثير التنافس او الاختلاف في شأن من شؤونها. لكن المطلوب ان يسير الانسان في علاقته بالآخرين على طريق الالتقاء والتعاون والمحبة كما أراد الله سبحانه.

إلا أن هذا المطلب ليس مسألة سهلة، انها من المسائل المعقدة والشائكة في الحياة. لأنها تتطلب من الانسان ان ينتصر على ذاته وان يواجه أهواء النفس بقلب يملأه الايمان والاخلاص لله عزّ وجل وهي المهمة الكبيرة التي تستغرق عمره، لأن الانسان يعيش في كل لحظة صراعاً مريراً مع نوازعه النفسية التي تغريه بفعل المعصية

___________________________________

(1) تحف العقول: 200.

(2) الوسائل 8: 399.

والانسياق وراء الشهوات والرغبات.

ان الانسان المسلم من أجل أن يساهم في بناء الكيان الاجتماعي الاسلامي، لابد أن ينظر إلى الآخرين من أبناء الاسلام على أنهم شركاءه في الحياة، وأخوانه وأصحابه الذين بهم يتقوم وعليهم يستند، وانهم مادة عمله في نفس الوقت، فيصلح ما فسد من شؤونهم، ويعين من يحتاج إلى عونه ومساعدته.

عن الامام السجاد (ع): (يا زُهريّ، وما عليك أن تجعل المسلمين منك بمنزلة أهل بيتك، فتجعل كبيرهم بمنزلة والدك وتجعل صغيرهُم بمنزلة ولدك وتجعل تربك منهم بمنزلة أخيك، فأي هؤلاء تحبُّ أن تظلْم ؟ وأي هؤلاء تحب أن تدعو عليه ؟ وأي هؤلاء تحب أن تهتك سترهُ ؟)(1)

هذه هي الصورة التي يرسمها الاسلام لعلاقة المسلم مع المجتمع الاسلامي انها الاطار الذي تنضج فيه الشخصية المتزنة في علاقتها العامة، فلا تطغى نوازع الذات على سلوك المسلم ولا يسقط في جوف ذاته منغلقاً داخلها فلا يخرج إلا لغرض شخصي أو لتلبية رغبة ذاتية.

لقد ابتلي الانسان بحبه لنفسه، وحبه لأهله خاصة. وقد بلغ هذا الحب مستوى يكون الانسان مشغولا بهم عمّن سواهم. وهذه من الظواهر الاجتماعية التي تغلب على البشر، واليها تعود اسباب الكثير من مظاهر التفاوت الطبقي والمعاشي بين الناس.

ولكي يقتلع الاسلام جذور هذه الظاهرة السلبية فانه عالجها من الاساس الذي تنطلق منه، من داخل الانسان. وذلك عبر دعوته لايجاد حالة متوازنة بين اهتماماته بشؤونه الخاصة والعائلية وبين اهتماماته بافراد المجتمع الاسلامي فينظر اليهم على

___________________________________

(1) البحار 71: 230.

أنهم اخوانه وابناءه وعائلته وعشيرته.

ففي الحديث المشهور عن الرسول (ص): (من أصبح لايهتم بأمور المسلمين، فليس منهم. ومن سمع رجلا ينادي ياللمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم).

هذه هي المسؤولية الضخمة التي يواجهها الانسان المسلم في حياته. ان من واجبه ان يهتم بالمسلمين ومن واجبه أن يلبي نداء المستغيث، ومن واجبه ان يقدم للآخرين ما يقوى عليه من خدمة، وإلا فانه لا يعتبر مسلم.

ثم ينتقل الاسلام بالانسان إلى درجة أخرى في مسار علاقاته مع مجمتعه بختلف فئاته ومكوناته الانسانية، حيث يمنهج له علاقاته بدءً من دائرته العائلية وانتهاءً بمحيطه الاجتماعي الكبير، وذلك ضمن خط متوازن يساهم في بناء شخصيته الانسانية المتزنة.

قال تعالى: (واعبدوا الله ولا تُشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً وبذي القُربى واليتامى والمساكين والجار والصّاحب بالجنب وابن السَّبيل وما ملكت أيمانكم إنَّ الله لا يُحبُّ من كان مختالا فخوراً * الذين يبخلون ويأمرون الناسَ بالبخل ويكتمونَ ما آتاهُم اللهُ منْ فضله واعتدنا للكافرينَ عذاباً مُهيناً)(1)

في هذه الآيات الكريمة يقف الانسان أمام مكونات المجتمع ليؤدي لكل شريحة وفئة حقها. فهو يتحمل واجبات متعددة تشمل والديه وأقاربه وجيرانه واصدقاءه، وتمتد إلى أبعد من ذلك لتشمل المساكين والمحرومين وابناء السبيل. انه مسؤول عن علاقاته بشرائح المجتمع كلها، وعليه أن يتعامل مع افرادها بالاسلوب الطيب والكلمة الحسنة والعلاقة السليمة التي تقوم على اساس العطاء فيما بينه وبين الآخرين.

___________________________________

(1) سورة النساء: 36 ـ 37.

فالاسلام لا يريد من الانسان ان يكون مجرد باحث عن الامتيازات وعن تلبية احتياجاته الخاصة، بل يريده مصدر عطاء ورعاية للآخرين، يعيش همومهم ويشاركهم متاعبهم، ثم يعينهم في امور دنياهم من أجل ان يتماسك المجتمع الاسلامي ويتحول إلى قوة اجتماعية ووحدة انسانية وثيقة الترابط.

ومن هنا فان الانسان لا يمثل في نظر الاسلام عنصراً منفرداً في مسار الحياة، فالاسلام يرفض هذه الصفة الانفرادية لأن معنى ذلك انه يتحول إلى عامل استهلاك وإلى باحث عن احتياجاته الخاصة. وهو الاحساس الذي يفتت الوحدة الاجتماعية للمسلمين، اذ سيكون المظهر العام للعلاقات قائماً على اساس التنافس والتسابق في اكتساب المصالح الفردية وتجميع المكاسب الشخصية على حساب الآخرين، مما يفرز مجتمعاً منقسماً على نفسه، تحكمه الدوافع المادية والعلاقات المصلحية.

ان الاسلام رفض ذلك كله، وركز في بناء المجتمع الصحيح فجهد على تربيته تربية اسلامية قائمة على الايمان والالتزام بالمنهج الالهي القويم. وبذلك قلل عنده شعور الفردية. مقابل تعميق الاحساس الجماعي. فالاسلام كرسالة بشرية لا تحقق اغراضها بالصيغ الفردية، انما من خلال التكامل الاجتماعي الذي يساهم في بناء الفرد المسلم.

يقول الامام الرضا (ع)

(إنما جُعلت الجماعةُ لئلا يكون الاخلاصُ والتوحيدُ والاسلام والعبادةُ لله إلا ظاهراً مكشوفاً مشهوراً. لأن في اظهاره حجة على أهل الشرق والغرب لله وحده. وليكون المنافق والمستحق مؤدياً لما أقرَّ به بظاهر الاسلام والمراقبة. وليكون شهادات الناس بالاسلام بعضهم لبعض جائزة ممكنة، مع ما فيه من المساعدة على البر والتقوى، والزجر عن كثير من معاصي الله عزّ وجلّ)(1)

من هذا الحديث نكتشف الابعاد الحركية المترتبة على السلوك الاجتماعي للمسلم والتي نلخصها بالنقاط التالية:

1 ـ ان المسلم في خروجه من دائرته الفردية ومساهمته في حركة المجتمع يكون قد أدى واجباً اسلامياً على الصعيد الاجتماعي.

2 ـ ولا يمثل قيامه بهذا الواجب اداء حقوق الآخرين فحسب، بل انه يشترك مع غيره في بناء الوحدة الاجتماعية الاسلامية، بمظهرها المتماسك الذي يوحي بالقوة وبوحدة الهدف، والاشتراك في السير على طريق الاسلام.

3 ـ وعندما تظهر معالم التماسك الاجتماعي عبر الممارسة الاسلامية والسلوك الاسلامي، فان ذلك يُظهر قوة الاسلام وقدرته البناءة امام الاعداء.

4 ـ ثم تأتي بعد ذلك مرحلة العطاء الكبير في المجتمع من خلال تحوله إلى قاعدة عريضة تتجسد فيها مفاهيم الاسلام واحكامه عملياً.

لقد تضمن المنهج الاسلامي الكثير من الآيات القرآنية والاحاديث الشريفة التي تأخذ بالانسان في طريق التكامل الاجتماعي من خلال تجديد مسار سلوكه وتنظيم علاقاته مع الآخرين. وقد تجسد كل ذلك في سلوك الرسول (ص)، وفي سلوك الأئمة الاطهار عليهم السلام، وهذا ما تحدث عنه القرآن الكريم في العديد من الآيات التي تصف حالة الرسول (ص) الاجتماعية، واسلوبه في التعامل مع المجتمع الاسلامي، في محاولة لتقديم ملامح الانسان الرسالي الذي يريده الله تعالى لعباده، ويحفزه دائماً للاقتداء به والسير على هداه في كل موقف وسلوك.

(فيما رحمة من الله لنت لهم ولو كُنت فظاً غليظ القلب لانفضُّوا من حولك)(2)

___________________________________

(1) عيون أخبار الرضا 2: 109.

(2) سورة آل عمران: 159.

(لقد جاءكُم رسول من انفسكُم عزيزٌ عليه ما عَنتم حريصٌ عليكم بالمؤمنين رؤوفٌ رحيمٌ)(1)

(وإنَّك لعلى خُلق عظيم)(2)

(لقد كان لكم في رسول الله أسوةٌ حسنةٌ لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً)(3)

وتنقل لنا كتب الاخلاق والسير، جوانب رسالية عظيمة من سلوك الرسول (ص) مع مجتمعه.

قال الامام الحسين (ع): سألت أبي عن دخول النبي (ص) فقال: (كان دخوله لنفسه مأذوناً له في ذلك. وكان اذا آوى إلى منزله جزّأ دخوله ثلاثة أجزاء، جزء لله عزّوجلّ، وجزء لأهله، وجزء لنفسه. ثم جزّأ جزءه بينه وبين الناس فيردّ ذلك على العامة والخاصة و لا يدّخر عنهم شيئاً.

فكان في سيرته في جز الامة ايثار أهل الفضل بإذنه وقسمه على قدر فضلهم في الدين، فمنهم ذو الحاجة، ومنهم ذو الحاجتين ومنهم ذو الحوائج، فيتشاغل بهم ويشغلهم فيما اصحلهم وأصلح الامة من مسألته عنهم، وإخبارهم بالذي ينبغي لهم، ويقول ليبلغ الشاهد الغائب، وأبلغوني في حاجة من لا يستطيع إبلاغ حاجته فانه من أبلغ سلطاناً حاجة من لا يستطيع إبلاغها إياه ثبّت الله قدميه يوم القيامة، لا يذكر عنده إلا ذلك ولا يقبل من أحد غيره، يدخلون زواراً ولا يفرقون إلا عن ذواق، ويخرجون أدلة فقهاء)

قال الامام الحسين (ع): فسألته عن مخرجه كيف كان يصنع فيه ؟ قال: (كان رسول الله (ص) يخزن لسانه إلا فيما يعنيه ويؤلفهم ولا يفرقهم ـ أو قال ولا ينفّرهم

___________________________________

(1) سورة التوبة: 128.

(2) سورة القلم: 4.

(3) سورة الاحزاب: 21.

ويكرم كريم كل قوم ويوليّه عليهم، ويحذر الناس الفتن، ويحترس منهم من غير ان يطري عن احد بشره ولا خلقه، ويتفقد اصحابه، ويسأل الناس عما في الناس، فيحسّن الحسن ويقويه، ويقبّح القبيح ويوهنه، معتدل الأمر غير مختلف لا يغفل مخافة أن يغفلوا أو يمّلوا. لكل حال عنده عتاد. لا يقصر عن الحق ولا يجوزه، الذين يلونه من الناس خيارهم، أفضلهم عنده أعمهم نصيحة، اعظمهم عنده منزلة أحسنهم مواساة ومؤازرة).

قال الامام الحسين (ع): فسألته عن مجلسه. قال: (كان رسول الله (ص) لا يجلس ولا يقوم إلا على ذكر الله جلّ اسمه، ولا يوطن الاماكن وينهى عن إيطانها. واذا انتهى إلى قوم جلس حيث ينتهي به المجلس ويأمر بذلك، يعطي كلا من جلسائه نصيبه حتى لا يحسب جليسه أن أحداً أكرم عليه منه. من جالسه أو قاومه في حاجة صابره حتى يكون هو المنصرف عنه. ومن سأله حاجة لم يرده إلا بها أو بميسور من القول. قد وسع الناس منه بسطه وخلقه فكان لهم أباً وصاروا عنده في الحق سواء. مجلسه مجلس حلم وحياء وصبر وأمانة، لا ترفع فيه الاصوات ولا يوهن فيه الحرم ولا تنثى فلتاته، متعادلون متفاضلون فيه بالتقوى، متواضعون يوقّرون فيه الكبير ويرحمون فيه الصغير ويؤثرون ذا الحاجة ويحفظون ـ أو قال ويحوطون ـ الغريب).

قال الامام الحسين (ع): قلت: كيف كانت سيرته مع جلسائه ؟. قال: (كان رسول الله (ص) دائم البشر سهل الخلق، لين الجانب ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخّاب ولا فحاش ولا عياب ولا مداح. يتغافل عما لا يشتهي، فلا يؤيس منه ولا يخيب فيه مؤمليه. قد ترك نفسه من ثلاث: المراء والإِكثار ومما لا يعنيه. وترك الناس من ثلاث: كان لا يغرمّ أحداً ولا يُعيره، ولا يطلب عورته، ولا يتكلم إلا فيما يرجو ثوابه..).

قال الامام الحسين (ع): قلت: كيف كان سكوته ؟. قال: (كان سكوت رسول الله (ص) على أربعة: على الحلم والحذر والتقدير والتفكر، فأما تقديره ففي تسوية النظر والاستماع بين الناس، واما تفكره ففيما يبقى ويفنى وجُمع له الحلم والصبر، فكان لا يغضبه شيء ولا يستنفره.. وجُمع له الحذر في أربعة: أخذه بالحسن ليقتدي به، وتركه القبيح لينتهى عنه، واجتهاده فيما اصلح امته، والقيام فيما جمع لهم خير الدنيا والآخرة)(1)        تلك هي بعض صفات الرسول الأكرم (ص) في علاقاته مع الناس. وفي حياته الخاصة والعامة. فهو (ص) المثل الاعلى للشخصية المتزنة التي وصفها الله تعالى قدوة للعالمين.

*         *         *

بعد ان يعيش الانسان المسلم في نفسه الحس الاجتماعي، ويتعامل مع محيطه وفق ما أراده الله تعالى والذي يحقق له شخصيته المتزنة في علاقاته الاجتماعية، تتسع الدائرة من نطاقها الفردي، لتصبح في دائرة المجتمع الاسلامي الكبير، حيث هو الآخر خضع لمنهاج دقيق من الصياغة والاعداد. فلقد نظم الاسلام قواعده التركيبية الكبيرة التي تتألف من مجموع المسلمين وقد يضم وسطه بعض الفئات غير الاسلامية من ابناء الاديان الاخرى كالمسيحيين واليهود.

وفي هذا المنهج تتسع المسؤولية لتشمل المسلم كفرد والمسلمين كجماعة بشرية. وذلك في علاقات متبادلة فيما بينهم، تسير بالمجتمع كله نحو التكامل الاجتماعي الذي يريده الله لعباده.

ولكي يحقق الاسلام هذا الغرض الكبير، سعى الى تعبئة الفرد المسلم بمشاعر الجماعة. ولكن دون أن يخلق عنده ارتباكاً في طريقة التعامل، فهو كفرد عليه واجبات اجتماعية محددة لا يمكن أن تنجز إلا بعمل فردي. من قبيل حسن المعاشرة والتعامل مع الآخرين وحفظ حقوقهم وعدم التعرض لهم بسوء وغير ذلك من الاحكام والتعاليم الالهية.

___________________________________

(1) عن كتاب مكارم الاخلاق.

وإلى جانب ذلك فالمسلم هو جزء من المجتمع الكبير الذي يتحمل بدوره مسؤولياته تجاه الاسلام. كما هو الحال في القضايا الكبيرة من قبيل الثورة ضد الطغيان، والجهاد في سبيل الله دفاعاً عن الاسلام أو نشراً للوائه. ففي مثل هذه القضايا ينهض المجتمع الاسلامي بمسؤولياتها، ويتم التحرك بصيغة جماعية وليست فردية، وان كان في حقيقته يتكون من التقاء الجهود الفردية.

وبذلك فان الانسان لا يعيش الازداوجية بين صفته الفردية وصفته الاجتماعية، فلقد نظم الاسلام ذلك بشكل متزن، حين اعطى لكل جانب واجباته الخاصة، وجعل الترابط بينهما متصلا ووثيقاً. فالسلوك الفردي له آثار اجتماعية عامة، كما ان التماسك الاجتماعي يحقق للفرد مكاسبه.

فعلى سبيل المثال أمر الله تعالى عباده بالامانة والعدل. كما في قوله عزّوجل:

(إنَّ الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل)(1).

في هذه الآية الكريمة نجد التنظيم القرآني الدقيق لحالة التوازن الاجتماعي، عن طريق عاملين مهمين هما اداء الامانة، والحكم بالعدل بين الناس.

فعندما يكون الافراد مؤتمنين على أموال بعضهم البعض وعلى أمور حياتهم الاخرى. فان الشعور بالأمن يدخل قلب كل فرد. كما ان المجتمع كله يصبح مجتمعاً آمناً لا يخاف فيه الفرد على ممتلكاته وشؤونه الخاصة، فهو مثلما يحافظ على شؤون الآخرين، فانهم أيضاً يحافظون على شؤونه.

اما الحكم بالعدل فو لا يختص بالسلطات الحاكمة، بل انه مطلوب من الفرد كذلك حين يقف في موقف يستدعي منه إصدار رأي حاكم في مسألة من مسائل الحياة، ومطلوب أيضاً من الجماعة أن تصدر أحكامها بطريقة عادلة مجردة على الاعتبارات

___________________________________

(1) سورة النساء: 58.

العائلية أو القبلية أو غير ذلك. وحين يصبح العدل سمة المجتمع، فان الانسان يشعر بالطمأنينة والاستقرار.

وهناك امثلة كثيرة على العلاقة التبادلية بين السلوك الفردي والاجتماعي، والتي تحقق في محصلتها شخصية الفرد وشخصية المجتمع على السواء والانسان في كل ذلك هو الوحدة الاساسية في التركيبة الاجتماعية المتماسكة.

لقد أكد الاسلام على ضرورة التحرك في صيغة جماعية مشتركة على طريق العمل الاسلامي، من أجل بناء المجتمع الاسلامي القوي المتماسك. حيث وجه المسلمين إلى العمل البناء الذي يقوي واقعهم باعتبار ان القوة الاجتماعية هي مقدمة للبناء الحضاري الذي يهدف الاسلام إلى اقامته في حياة البشر.

وعلى هذا فان الحركة الاجتماعية باتجاه القوة، تبدأ من الجماعة الاسلامية والتي يشكل الفرد فيها العنصر الاساس، حتى اذا ما وفرت اسباب الوحدة والتماسك انطلقت نحو الآفاق الأوسع.

وفي هذا الخصوص نقرأ الكثير من النصوص الاسلامية التي تشير الى أهمية البناء الاجتماعي المتين القائم على علاقات الاخوة والمحبة والمودة وما إلى ذلك من قيم الاسلام العالية.

(واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألَّف بين قلوبكم فأصبحتُم بنعمته إخواناً وكنتُم على شفا حُفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يُبين اللهُ لكم آياته لعلكُم تهتدون)(1).

(إنما المؤمنون إخوةٌ فأصلحوا بينَ أخويكم واتقوا اللهَ لعلكم تُرحمون)(2).

___________________________________

(1) سورة آل عمران: 103.

(2) سورة الحجرات: 10

(ربنا اغفر لنا ولاخواننا الذين سبقُونابالايمان ولا تجعل في قلوبنا غِلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم)(1).

(والذين تبوّءوا الدار والايمان من قبلهم يُحبّون من هاجرَ اليهم ولا يجدون في صدورهم حاجةَّ مما أتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة)(2).

وعن الرسول (ص): (مداراة الناس نصف الايمان، والرفق بهم نصف العيش)(3).

وعنه (ص): (أحب عباد الله إلى الله أنفعهم لعباده وأقومهم بحقه الذين يحبب اليهم المعروف وفعاله)(4).

وعنه (ص): إن لله عباداً يفزع اليهم الناس في حوائجهم أولئك هم الآمنون من عذاب الله يوم القيامة)(5).

ويقدم القرآن الكريم النموذج الاسلامي للتوازن الاجتماعي الذي كان على عهد الرسول (ص) في قوله عزّوجل:

(محمدٌ رسولُ الله والذين معهُ أشداءُ على الكفار رحماءُ بينهم تراهم رُكعاً سُجداً يبتغون فضلا من الله ورضواناً سيماهُم في وجوهم من أثر السجود ذلك مثلهُم في التوراة ومثلهم في الانجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فساتغلظ فاستوى على سوقه يُعجبُ

___________________________________

(1) سورة الحشر: 10.

(2) سورة  الحشر: 9.

(3) تحف العقول: 35.

(4) تحف العقول: 35.

(5) تحف العقول: 37.

الزُّراع ليغيظ بهم الكفار وعد اللهُ الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرةً وأجراً عظيماً)(1).

وحين نتأمل هذه الآية القرآنية من وجهة نظر اجتماعية فاننا نجد انها تقدم العديد من المضامين للقوة الاجتماعية، والتي تكونت بفعل التوازن الذين تتسم به وهذا ما نبينه في النقاط التالية:

1 ـ لم تتألف تلك القوة الاجتماعية لولا وجود الرسول (ص) في موقع القيادة. حيث مارس دوره القيادي على أكمل وجه فكان الاسوة والمرشد والموجَّه والمربي. وقد تفاعلت معه الامة لا لأنه رسول الله وعليهم طاعته فحسب، بل لأن سلوكه التربوي والقيادي هو الذي ألف القلوب وجمعها من خلال صفاته الالهية وتعامله الاخلاقي الرفيع وهذا ما بينه القرآن الكريم في أكثر من موضع.

(فيما رحمة من الله لنتَّ لهم ولو كنت فضاً غليظ القلب لانفضوا من حولك)(2)

(لقد جاءكم رسول من أنفسكُم عزيزٌ عليه ما عنتّم حريصٌ عليكم بالمؤمنين رؤوفٌ رحيمٌ)(3)

رقة القلب، وسعة الصدر، ومشاعر الرحمة هي التي جمعت الناس حول الرسول فكان قائدهم. ولولا تلك الاخلاق لما تمنع الرسول (ص) بموقعه الاول وسط الامة. ان القرآن الكريم يبين هنا أفضلية التعامل الاخلاق على أي قيمة أخرى، كما هو واضح من الآية الأولى، فالرسول (ص) صنع موقعه القيادي الأول وسط المجتمع الاسلامي بفعل الممارسة الانسانية بكل مثلها العليا. وكانت هذه الممارسة هي المقدمة الطبيعية لنشر الفكر ولجذب الناس اليه واعتناقهم لمبادئه. وبعد ذلك تحولهم

___________________________________

(1) سورة الفتح: 29.

(2) سورة آل عمران: 159.

(3) سورة التوبة: 128.

إلى قاعدة رسالية تنشر العقيدة وتدافع عنها.

لقد بلغت رقة القلب عند الرسول (ص) ورحمته بمجتمعه انه كان يتألم لعنادهم ويحزن لعدم ايمانهم بدعوته، اشفاقاً عليهم مما سيلاقونه من مصير وعذاب. وكانت مشاعر الحزن تملأ قلبه الكبير، فيهّون الله تعالى عليه ذلك بقوله:

(ولا تحزنْ عليهم ولا تكن في ضيق مما يمكرون)(1).

هذه هي شخصية القائد في تعامله مع مجتمعه، انه رحيم بافراده وقاعدته، يحمل همومهم ويعيش مشاكلهم بطريقة متفاعلة كما وكأنها همومه الخاصة ومشاكله الشخصية وهو إلى جانب ذلك يشفق على اعدائه من خطورة المصير الذي ينتظرهم. انه لا يحمل في داخله أي نفس عدائي على الاطلاق.

ويمكن لنا أن نتصور صعوبة تحقيق مثل هذا التوازن في المشاعر. فالانسان لا يستطيع أن ينظر إلى أعدائه بعين الشفقة، باعتبار انهم يريدون به شراء ويحاولون اسقاط حركته وتحطيم قوته. لكن صاحب الرسالة يتجرد عن مشاعر الكراهية، لانه يريد الخير للجميع، ولأنه متزن في شخصيته فلا تطغى عليه الانفعالات والمواقف العاطفية.

واضافة إلى ذلك فان الرسول (ص) استطاع من خلال سلوكه الالهي وسط مجتمعه ان يجسد مفاهيم رسالته فكانوا ينظرون إلى القرآن حياً متمثلا في قائدهم كانوا امام نموذج يتسم بالتوازن بين الفكرة والسلوك مما جعلهم ينشدّون لها وله على السواء.

وعلى ضوء ذلك أكدت تعاليم الاسلام على ضرورة تمتع الرواد والقادة بالخلق الاسلامي باعتبار أن شخص القائد لا بد أن يكون أسوة لغيره.

فقد روي عن الامام علي (ع) قوله: (من نصّب نفسه للناس إماماً فليبدأ بتأديب

___________________________________

(1) سورة النمل: 70.

نفسه ومؤدب نفسه أحق بالاجلال من مؤدب الناس ومعلمهم).

وعن الرسول (ص): (لا تصلحُ الامامة إلا لرجل فيه ثلاثُ خصال، ورعٌ يحجزه عن معاصي الله، وحلمٌ يملك به عضبه، وحسن الولاية على من يلي، حتى يكون لهم كالوالد الرحيم)(1).

وخلاصة القول ان الرسول (ص) هو المثل الاعلى للقائد الاسلامي، ومن خلال تجسيده للقرآن الكريم إلتف حوله المسلمون وساروا خلف قيادته في مسيرته الطويلة التي نشر فيها الاسلام مع ان الظروف التي رافقت بناء الدولة الاسلامية كانت تشهد الكثير من التحديات الداخلية والخارجية. ولكن تماسك المجتمع الاسلامي الذي صنعه الرسول (ص)، وقيادته الالهية، حققت الانتصار على كل التحديات.

2 ـ ان عناصر القوة في المجتمع المتماسك لا تتحقق بوجود القيادة الحكيمة الكفوءة لوحدها، إذ لا بد من توفر القاعدة الجماهيرية المؤمنة بها والمستجيبة لقراراتها. وبذلك تتكامل عناصر القوة وتصبح الصورة متزنة في تركيبتها العامة مما يعطي للمجتمع قوته التي يمكن أن تصمد امام التحديات وان تسير في اتجاه أهدافها الكبيرة.

لقد استطاع مجتمع الاسلام الاول أن يحفظ الرسالة، لأنه وفّر في داخله عناصر الاستقرار الاجتماعي. والمتمثلة بقيادة الرسول وطاعة القاعدة. وهذا ما أتاح للفكرة ان تنطلق في الآفاق بعد أن مكنتها هذه الحالة المتزنة من التطبيق على مساحتها.

كان ذلك المجتمع بقياته وقاعدته يعيش حالة موحدة في الاطار الاجتماعي. فلم تكن هناك اثنينية بين القيادة والقاعدة، وتعزل احداهما عن الاخرى. ان الفارق

___________________________________

(1) اصول الكافي 1: 407.

بينهما هو في الحدود الشرعية والادارية التي تميز كل منهما. اما في المظهر الاجتماعي العام فهما معاً يشكلان التلاحم في نسيج واحد يعكس المتانة والانسجام للمجتمع القوي. اذ اختفت الفوارق الطبقية بين القيادة والقاعدة، ولم تكن القيادة طبقة والقاعدة طبقة أخرى في معيار السلوك الاجتماعي.

ثم يقدم القرآن الكريم معلماً آخر من معالم التماسك الاجتماعي حيث يصف التوازن الذي كان عليه مجتمع الرسول (ص) بقوله تعالى: (أشداء على الكفار رحماء بينهم). فهم يمتلكون احاسيس الشدة والرحمة معاً. شدة في الموقف تجاه الكفار الذين يهددون الرسالة، ورحمة تجاه بعضهم البعض من ابناء الاسلام. وهو ما يحتاج الى موازنة دقيقة في المشاعر والمواقف. وذلك استناداً إلى ما يمليه الموقف الشرعي.

ان هذه الموازنة في المشاعر ليست عملية سهلة، فقد تفرض ظروف العمل وأجواء المواجهة ان يصطدم الانسان المؤمن بالاعتبارات النسبية والقبلية، حين يجد أفراداً يرتبط بهم نسبياً يقفون في الخندق المقابل. ولقد واجه المسلمون الأوائل هذه الحالة. فكان عليهم أن يتجردوا عن الانتماءات القبلية وعصبياتها وعن مشاعر المودة لأهليهم وأقاربهم الكفار، على أساس أن الجانب العقائدي هو الذي ينظم المشاعر والعواطف وليست الاعتبارات الاخرى. وهذا ما أكده القرآن الكريم في العديد من الآيات الكريمة:

(يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكّم وإخوانكم أولياء إن استحبّوا الكفر على الايمان ومنْ يتولهم منكم فاولئك هم الظالمون * قلْ إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارةً تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحبَّ إليكُم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربّصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الظالمين)(1).

(لا تجدُ قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادٌّون من حادٌّ الله ورسوله ولو كانوا آباءهُم أو أبناءهُم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الايمان وأيدهم بروح منه ويدخُلهُم جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها رضي اللهُ عنهم ورضوا عنه أولئك حزبُ الله ألا إنَّ حزب الله هم المفلحون)(2).

(يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوّي وعدوّكم أولياء تلقون إليهم بالمودَّة وقد كفروا بما جاءّكم من الحق يُخرجون الرسول وإيّاكُم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي تُسرُّون إليهم بالمودَّة وأنا أعلم بما أخفيتُم وما أعلنتُم ومن يفعله منكم فقد ضلَّ سواء السبيل)(3)

ان الايمان هو الذي يحدد السلوك العاطفي شدة أو رحمة، باعتبار أن العلاقة الايمانية هي الرابطة الحقيقية التي تربط الانسان بالآخرين. فالاخوة انما تتحقق من خلال الايمان بالله، وليس بواسطة الاعتبارات النسبية، لأن المسألة تتصل بواقع الرسالة ومصيرها ومسقبلها. مما يجعل اساس العلاقة العاطفية متحدداً في ضوئها. فالمواجهة تتطلب أن يكون الموقف الاسلامي واحداً متماسكاً، وهذا لا يمكن أن يتم بمشاعر مختلفة ومتناقضة تجاه الجبهة المعادية، انما عن طريق تطابق المشاعر وذلك

___________________________________

(1) سورة التوبة: 23 ـ 34.

(2) سورة المجادلة: 22.

(3) سورة الممتحنة: 1.

كجزء من الموقف الموحد تجاه أعداء الله

إن الله يُحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصُوص)(1).

وفي مقابل هذا الموقف الذي اتخذه المسلمون الأوائل والذي يمثل نموذجاً متقدماً في العمل الحركي، هناك العلاقات المتينة بين أفراد المجتمع والتي عبّر عنها القرآن الكريم (رحماء بينهم). ولا تعني الرحمة المشاعر الساذجة أو السطحية التي يعبر بها البعض أزاء البعض الآخر، انما هي السلوك العاطفي الواعي الذي يعبر عن موقف اجتماعي مدروس. فالرحمة منهاج كبير يتضمن الكثير من معاني الخير والحب والمودة وغير ذلك.

ومن هنا فان العلاقات القائمة بين المسلمين على اساس الرحمه، تشمل سلوكهم الاجتماعي فيما بينهم. مما ساهم في تحقيق الوحدة الاجتماعية والقوة الاجتماعية التي تقف مدافعة عن الرسالة ضد التحديات والتهديدات التي تستهدف الاسلام.

3 ـ والمفهوم الآخر الذي نستخلصه من الآية الكريمة، ان الجانب الايماني هو الذي صنع حالات التوازن السابقة. فالمسلمون في مواقفهم المطيعة للرسول (ص)، وفي شدته مع الكفار، وفي تراحمهم فيما بينهم، انما جاءت كنتائج طبيعية اعطاها التزامهم بالمنهج الاسلامي. فهم (يبتغون فضلا من الله و رضواناً). لذلك فهم من أجل هذا الهدف الكبير تحولوا إلى قاعدة مخلصة مطيعة لقائدهم وتجاوزوا المشاعر الذاتية والقبلية إلى المشاعر الواعية التي نظمها الاسلام في نفوسهم وبذلك تحققت الوحدة الاجتماعية وتطورت في نموها الطبيعي باتجاه درجات أكثر قوة وانسجام.

*         *         *

___________________________________

(1) سورة الصف: 4.

الأبعاد السياسية للتوازن الاجتماعي

نحاول هناالتعرف على الآثار السياسية المترتبة على حالة التوازن داخل المجتمع الاسلامي فيما يتعلق بالعلاقة المتبادلة بين القيادة والقاعدة الجماهيرية. وذلك انطلاقاً من الأهمية الحركية والفكرية لهذا الموضوع، ومساسه بالواقع الميداني للتحرك الاسلامي، مستندين على ذكر الشواهد التاريخية حول التجارب الاسلامية التي تميزت بتوازن العلاقة، وتلك التي أختل فيها هذا التوازن.

نلتقي في البداية مع تجربة الرسول (ص) حيث كانت النموذج الرائع لمثالية التوازن الاجتماعي بين القيادة وقاعدتها، وهو ما افرز تماسكاً اجتماعياً متيناً تحول إلى قوة سياسية وعسكرية آنذاك. فالتماسك الاجتماعي هو الجو المطلوب لولادة بقية عناصر القوة في الامة وبعكس ذلك لا يمكن أن تنشأ القوة المتكاملة المستوعبة للطاقات البشرية.

لقد أستطاعت تلك القوة أن تواجه محاولات الهدم التي كان يثيرها المنافقون في المدينة المنورة. ثم انها استطاعت ان تخوض أول مواجهة عسكرية مع قوى الكفر في معركة بدر، وان تحقق انتصارها الأول. وهو ما شكل نقلة كبيرة في مسيرة الرسالة. فمعركة بدر توفرت في مقدماتها وخلال احداثها، عناصر القوة الاجتماعية وما ترتب عليها من قوة عسكرية، بفعل التفات القاعدة الجماهيرية حول قائدها الرسول الاعظم (ص)، في اجواء ايمانية منبثقة من قلوب مؤمنة بالله مطمئنة بنصره.

(ولقد نصركُمُ اللهُ ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكُرُون * إذ تقُولُ للمؤمنين ألن يكفيكُم أن يُمدكم ربّكُم بثلاثة آلاف من الملائكة مُنزلين * بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتُوكُم من فورهم هذا يمددكم ربّكُم بخمسة آلاف من الملائكة مُسومين * وما جعله اللهُ إلا بُشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم)(1).

غير ان هذا النصر الكبير لم يتكرر في واقعة أُحد، مع أن التركيبة الاجتماعية كانت نفسها لم تتغير. فالقائد هو الرسول (ص) والقاعدة هي من الانصار والمهاجرين. لكن نتيجة المعركه لم تكن لصالح المسلمين، حيث تعرضوا لأنتكاسة عسكرية امام قريش، وفقد المسلمون الكثير من الضحايا، كما تعرض الرسول (ص) الى خطر أحدق بحياته الشريفة. وكانت نقطة الخلل هي أن بعض أفراد القاعدة لم يعملوا بقرارات القيادة، وتصرفوا بدافع ذاتي  لجمع الغنائم. مما أفقد الجيش الاسلامي الغطاء الأمني، وأستغل الاعداء هذه الثغرة فحدث ما قلب نتائج المعركه، وحول النصر إلى انتكاسة خسر فيها المسلمون.

كانت مقدمات المعركة تشير إلى إنتصار المسلمين، لكن عدم التزام بعض المسلمين بالتعليمات والأوامر العليا، أربك الموقف العسكري ومكّن الأعداء من كسب الجولة.

ان معركة أحد تشير إلى انه في الظروف الحساسة والمهمة تتزايد أهمية الطاعة، وان أي تمرد على قراراتها أو تجاوز لتعليماتها قد يتسبب في ضياع جهود وفرص كبيرة، وربما يؤدي إلى ارباك المشروع السياسي أو العسكري كله.

ثم نلتقي بعد ذلك بترجبة الامام علي (ع). فلقد كان الامام يتمتع بنفس مواصفات الرسول (ص) القيادية. لكن القاعدة الجماهيرية لم تبق على تماسكها الأول. حيث أنقسم المجتمع الاسلامي إلى فئات عديدة وفقد قوته السابقة بعد وفاة الرسول (ص)، ونتيجة ما مرَّ به من ظروف سياسية قلقة مزقت وحدته. وبذلك لم تتوفر للامام علي (ع) القوة الاجتماعية المناسبة، كما أن فئات اجتماعية عديدة فرطت بقيادته

___________________________________

(1) سورة آل عمران: 123 ـ 126.

الالهية التي كان مقدراً لها أن تصل بالمجتمع إلى درجات عالية من القوة والتطور.

لقد استهلك التمزق الاجتماعي الكثير من جهود الامام (ع) حيث جهد على محاربة مظاهر الانحراف الفكري والسياسي التي بدأت تنمو في تلك الفترة، وتتحول إلى تيارات خطيرة تهدد الوجود الاسلامي فكراً وممارسة. الأمر الذي جعل الامام علي (ع) يوجه طاقاته نحو اعادة بناء المجتمع، والقضاء على الفتن الداخلية. ولذلك فان فترة حكمه لم تشهد توجهاً خارجياً لنشر الرسالة الاسلامية. فلقد رأى عليه السلام ان الوحدة الاسلامية مهددة من الداخل، وان البناء الداخلي أهم من التوسع الخارجي. فليس من الصحيح أن يوسع رقعة الدولة الاسلامية ما دامت قاعدة هذه الدولة تعاني من الضعف والتمزق والابتعاد عن المنهج الصحيح. كما أنه عليه السلام كان يجد في التيارات الداخلية المنحرفة مثل معاوية ابن أبي سفيان والخوارج خطراً محدقاً يهدد كيان الاسلام أكثر مما تهدده الدول الأخرى.

وكاد الامام علي (ع) أن ينهي الوجود السياسي لتيارات الانحراف بعد أن قضى على فتنة الجمل، وأوشك أن يحسم الموقف العسكري لصالحه نهائياً في معركة صفين ضد جيش معاوية ولكن خروج بعض قاعدته عليه وتمردهم على أوامره عند حافة النصر، أضاع فرصة كبيرة لتحقيق الوحدة في المجتمع الاسلامي، وأنهاء عوامل الاضطراب والفتنة، فيما عرف بخدعة رفع المصاحف ومهزلة التحكيم.

وكان من نتائج التمرد على القيادة وعدم اطاعتها، أن تعرض المجتمع  لأنتكاسات متتالية حيث تحول معاوية إلى كيان سياسي مؤثر فيما بعد، كما برز الخوارج كفئة سياسية جديدة تحمل فكراً منحرفاً عن منهج الاسلام وتعاليمه السماوية التي جاء بها الرسول (ص).

ورغم أن الامام علي (ع) ظل على موقفه الثابت في محاولة اعادة التماسك إلى الامة عن طريق القضاء على رؤوس الفتنة وعوامل القلق إلا أن القاعدة لم توفق بالعمل برأيه. فبعد أن قضى على الخوارج في معركة النهروان، وأراد أن يواجه معاوية من جديد ليستكمل حلقات الاصلاح الداخلي، تقاعست القاعدة عن نداءاته الداعية للجهاد. ورغم كل ما بذله الامام عليه السلام من محاولات الاقناع، إلا أنها ظلت عاجزة عن النهوض بنفسها إلى مستوى المسؤولية وهي في ذلك كانت تسيء إلى نفسها وإلى عقيدتها الاسلامية وهذا ما أوضحه عليه السلام في خطبه العديدة التي ركزها حول بيان مخاطر الموقف المتقاعس على الاسلام والامة.

(أُنبئتُ أن بُسراً قد اطّلعَ اليمن. وإني والله لأظن أن هؤلاء القوم سيدالون منكم باجتماعهم على باطلهم وتفّرقكُم عن حقكم وبمعصيتكم إمامكم في الحقّ، وطاعتهم إمامهم في الباطل. وبادائهم الامانة إلى صاحبهم وخيانتكُم وبصلاحهم في بلادهم وفسادكم)(1).

وفي خطبة أخرى يقول عليه السلام:

(ألا وأني قد دعوتكم إلى قتال هؤلاء القوم ليلا ونهاراً، وسراً وإعلاناً، وقلتُ لكم إغزوهم قبل أن يغزوكم. فو الله ما غُزي قومٌ قطٌَ في عُقر دارهم إلا ذَلّو. فتواكلتم وتخاذلتم حتى شُنت عليكم الغارات، ومُلكت عليكم الأوطان)(2)

وكان من نتائج ذل أن معاوية بن أبي سفيان أخذ يقوي سلطته في الشام، ويهدد العراق وبعض أطراف الدولة الاسلامية. واستمر الحال على ذلك حتى استشهاد الامام علي (ع) في مسجد الكوفة.

وحين تولى الخلافة الامام الحسن (ع) فانه واجه نفس المشكلة. فلقد أراد أن يستكمل سياسة أبيه عليه السلام في القضاء على سلطة معاوية في الشام، حتى يمكن توحيد المجتمع الاسلامي وحفظ الاسلام من نزعات السيطرة الفردية والقبلية لكن

___________________________________

(1) نهج البلاغة: 25.

(2) نهج البلاغة: 27.

الجماهير لم تسانده ولم تقف إلى جانبه.

ورغم ان الامام الحسن (ع) جهز جيشه لحرب معاوية، ورفض دعوات الصلح التي أرادها معاوية، إلا أن تخاذل جنده، والتحاق أعداد كبيرة منهم إلى جيش الشام لقاء أموال ضخمة، وضع الامام في وضع حرج. فقدر عليه السلام أن الحرب لو وقعت فلن تكون في صالحه، وسيتعرض الوجود الاسلامي بأسره إلى انتكاسه خطيرة قد تأتي على الاسلام. فاضطر سلام الله عليه إلى قبول الهدنة بايقاف الحرب، كما هو معروف من حوادث تلك الفترة.

واعقب ذلك حدوث المأساة الكبيرة مع الامام الحسين عليه السلام، حين أراد اصلاح الفساد الخطير الذي أخذ يتعاظم في الكيان السياسي للدولة نتيجة سيطرة يزيد بن معاوية على السلطة، وهو المشهور بفسقه وفجوره وظلمه.

وقد خرج الامام الحسين (ع) لطلب الاصلاح في أمة جده (ص)، بعد أن كاتبه أهل العراق يعربون له عن التزامهم بقيادته ومضيهم في طريق الثورة إن هو قدم إليهم. لكنه عليه السلام حين قدم إلى العراق لم يجد القاعدة التي وعدته بالمؤازرة والعمل تحت لوائه. فوقعت المأساة الدامية في كربلاء.

كان المجتمع الاسلامي يفقد قوته الداخلية وتماسكه الاجتماعي لأن الروح الايمانية التي كان يتمتع بها على عهد الرسول (ص) لم تبق على قوتها، انها ضعفت بدرجات كبيرة، مما أفقد التماسك الاجتماعي متنانته، فكانت تؤثر فيه النوازع والتحديات، وتمزق وحدته وقوته. حتى أصبح من الصعب التعامل مع المسلمين على انهم مجتمع واحد، بل مجتمعات عديدة وفئات مختلفة. وكرس الامويون هذا الانقسام بتوجههم القبلي وروحهم التعصبية، وغذّوا الانقسام والتمزق بثقافة منحرفة.

وخلال ذلك كله لم يكن بمقدور أئمة أهل البيت عليهم السلام أن يعيدوا الامور إلى نصابها. لأن القاعدة الجماهيرية فقدت تماسكها وضعف ايمانها، مما افقد القيادة عناصر القوة. فكانت القيادة لوحدها في الميدان تواجه التحديات والانحرافات مع ثلة مؤمنة قليلة.

كان الموقف المتراخي من قبل القاعدة يفوت على القيادة تحقيق أهدافها، الأمر الذي ينقل المجتمع إلى مواقع متراجعة من حيث القوة، فيكون عرضة لانتكاسة جديدة.

ومن هنا حرص أئمة أهل البيت عليهم السلام بعد استشهاد الامام الحسين (ع) على معالجة الواقع المرير للامة الاسلامية والذي كان يعاني من التمزق الاجتماعي والانحراف الفكري والضعف الايماني. وقد انصبت جهودهم طوال حياتهم على هذه الابعاد. لأنهم قدروا ان الحركة الهادفة التي تسعى لاعادة تحكيم الاسلام في الحياة، لابد أن تستند إلى قاعدة جماهيرية مدركة مؤمنة متماسكة، وإلا فان أي تحرك سيواجه الفشل، لأنه يفتقر إلى عتاصر القوة.

وعلى هذا نجد أن الأئمة (ع) رفضوا تبني العديد من الحركات السياسية المعارضة، إما لتقديرهم بان الظرف لا يناسب التحرك، أو الحركه لم تستكمل شروط القوة، أو ان القائمين عليها ليسوا في مستوى العمل الاسلامي، وهذا ما نلاحظه في توجه الامام السجاد (ع) ومن بعده الامام الباقر (ع) ثم الامام الصادق (ع) في بناء القاعدة الفكرية الصحيحة للامة بعد أن تعرضت للتصدع والانحراف وأخذت تتهددها الاتجاهات المذهبية والفلسفية.

لقد حفظ الأئمة الهداة عليهم السلام العقيدة الاسلامية وحافظوا على اصالة الاسلام. غير ان الامة الاسلامية ظلت ممزقة، لأن قيادتها السياسية الحاكمة لم تكن هي القيادة الشرعية التي تعمل من أجل الاسلام وعلى هديه. كانت في حقيقتها نظام ملكي يتوارثه الابناء عن الآباء. ولكي يدعم هؤلاء مواقعهم السلطوية، اعتمدوا أساليب سياسية مختلفة، كان من نتائجها ظهور الطبقية. ثم ساءت الحالة فظهرت النزعات العنصرية والاقليمية والقومية التي عبرت عن نفسها من خلال التصورات الفكرية كاتجاهات سياسية داخل الامة.

وكان حصيلة ذلك أن أبعدت القيادة الشرعية الحقيقة للامة، عن مواقعها، بل ان هذه القيادة المتمثلة بالائمة عليهم السلام صارت أو كانت موضع ملاحقة السلطات وتصفيتهم جسدياً. وكذلك ملاحقة شيعتهم وتعقب رجالهم العاملين.

وكانت عملية إبعاد القيادة والرجال القيادين عن الساحة في محاولة لتحجيم دورهم وعزلهم عن الامة، عملية تتم إلى جانب التضليل الفكري والسياسي، حتى تبدد التماسك الاجتماعي، وتعمقت الفوارق والاختلافات في جسم الامة الاسلامية.

وهكذا فقد الكيان الاجتماعي للمسلمين عناصر قوته المتوازنة، بفقدانه الدور القيادي الكفوء، وخسارته التماسك الاجتماعي المطلوب، فسهل احتواء حركة الاسلام من قبل اعدائه، وايقاف مده الزاحق، وبالتالي سيطرة الاستعمار على المقدرات الاسلامية، لأنه تحرك بطريقة ممنهجة في الوقت الذي كانت المنهجية غائبة عن الوسط الاسلامي.

*         *         *

بعد هذا الحديث أود أن أشير إلى نموذجين معاصرين حول التوازن الاجتماعي بين القيادة والقاعدة وأثره على مستقبل التحرك الاسلامي.

الأول ما حدث في الثورة الاسلامية في ايران. حيث تمتعت الساحة الايرانية بقيادة الامام الخميني « قدس سره » والذي كان يتميز بمواصفات قيادية عالية، جعلته رجل المرحلة وقائد الجماهير.

وفي المقابل فان الجماهير المسلمة أدركت دورها ودور قائدها، فالتفت حوله وتجمعت خلفه. وكانت منقادة إليه مطيعة لأوامره وتعليماته، حتى منَّ الله تعالى على الثورة بالنصر. فلقد وفرت حركة الثورة عناصر النجاح الاساسية من القيادة الكفوءة والقاعدة المطيعة والروح المعنوية العالية التي جمعتها معاً، فكان التماسك الاجتماعي ووحدته القوية التي أفشلت كل المخططات المعادية ومحاولات الاحتواء.

والثاني هو ما حدث في العراق خلال نفس الفترة تقريباً. فقد مارست الحركة الاسلامية مهمة تغيير الامة على اساس الاسلام لفترة طويلة تقرب من عشرين عاماً، يهدف تهيئة الامة فكرياً وسياسياً وخلق القاعدة الجماهيرية المؤمنة بالاسلام منهجاً وسلوكاً حتى تصبح على استعداد لدخول مرحلة الصراع السياسي ضد السلطة المعادية للاسلام في العراق.

وقد استطاعت الحركه الاسلامية طوال تلك السنين أن تحقيق انجازات جماهيرية كبيرة مقارنة بالظروف السياسية والاجتماعية. وشهدت الساحه العراقية تحولات كبيرة في مسارها العام، وللدرجة التي لا يمكن قياس الواقع الاجتماعي قبل بدء المرحلة التغييرية بواقعها فيما بعد.

لكن الذي حدث ان السلطة الحاكمة وبتأثير انتصار الثورة الاسلامية في ايران، سارعت إلى زيادة ضغطها الارهابي ضد الدعاة إلى الله. وكانت فترة عصيبة من العمل. فاضطرت الحركة الاسلامية إلى خوض الصراع السياسي قبل أن تستكمل استعداداتها، لأنها وجدت نفسها مضطرة للدفاع عن وجودها امام هجمة السلطة.

وفي تلك الاجواء المشحونة بالاضطراب والارهاب، اقدمت السلطة على اعدام سيدنا الامام الشهيد السيد محمد باقر الصدر (رض) الذي كان هو الرمز القيادي للتحرك. وبذلك فقدت الجماهير قائدها، ولم يظهر من يملأ فراغه. وهكذا تعرضت الحركة الاسلامية والجماهير بصورة عامه لانتكاسه كبيرة، إلا أنها ظلت تواصل سيرها على طريق الثورة. مع الاشارة إلى الاسلوب الارهابي الذي اعتمدته اجهزة السلطة، كان من الشدة بحيث أصبحت حركة الثورة تسير في أجواء صعبة للغاية. كما كانت هناك ظروف سياسية ودولية اعاقت مسارها. ولا نريد أن نستعرض تلك الظروف لأنها خارج نطاق هذه الدراسة(1)

___________________________________

(1) لقد تجددت الثورة مرة أخرى في شعبان 1411 هـ. حيث ثار الشعب العراقي في الجنوب ووصلت حتى الشمال، وأستطاعت أن تهدد السلطة وما تزال أحداثها جارية حتى كتابة هذه السطور.

وخلاصة القول، ان تحقيق التوازن بين القيادة والقاعدة يمثل نقطة جوهرية ومترتكزاً اسياسياً في نجاح التحرك الاسلامي، باعتار أن هذا التوازن من شأنه أن يؤلف وحدة اجتماعية متينة تتخذ الموقف الموحد، وتسلك الطريق الواحد، بروح ايمانية عالية، تعيش الرسالة باعماقها، فتعطي القيادة كل اهتمامها للقاعدة وتعيش همومها ومشاكلها وأوضاعها، وفي المقابل، تمنح القاعدة ثقتهابقيادتها وتبذل كل طاقاتها من أجل انجاح مشاريعها، وبهذا التواصل والانسجام يمكن للتحرك ان يبلغ أهدافه باذن الله تعالى.

*         *         *

التوازن العددي في المواقف

ما نقصده في هذا العنوان هو بيان القيمة الحقيقية للحسابات الكمية في البناء الاجتماعي ومدى تأثيرها على توازنه. فمن التصورات الشائعة ارتباط القوة الاجتماعية بالحساب العددي لأفراد المجتمع، على اعتبار أن زيادة الافراد يمثل قوة بشرية، بينما تعطي القلة العددية صورة الضعف. وتتسع هذه التصورات لتنظر إلى الزيادة العددية على انها الرصيد السياسي والعسكري للمجتمع، كما هو حال الدول القوية التي تمتلك مقدرات التأثير السياسي والعسكري في الحياة الدولية.

وفي الحقيقة ان (الكم) لا يشير إلى قيمة ايجابية ما لم يكن قائماً على أساس (النوع). وان الزيادة العددية في أفراد الجماعة البشرية لا يعني انها تمتلك عنصر القوة بالضرورة. فهناك الكثير من المجتمعات ذات الكثافة السكانية الكبيرة، إلا أنها تعاني من مشاكل خطيرة في أوضاعها الحياتية وفي المقابل هناك مجتمعات صغيرة إلا أنها تتمتع بقوة كبيرة.

ان المسألة المهمة في هذا الموضوع هي ضرورة تحقيق التوازن بين (الكم والنوع). وعندما تتحقق هذه الحالة المتوازنة فان الزيادة العددية يمكن أن تشكل عنصر قوة في البنية الاجتماعية على اساس أن الطاقات البشرية ستتجه نحو خدمة بعضها البعض مما يبني قاعدة اجتماعية متينة.

لقد أهتم الاسلام بالنوعية وأكد على ضرورة تمتع الجماعة بالروح الايمانية حتى يمكن أن تحقق التماسك الاجتماعي وتعيش حالة التوازن. وبذلك تكون قوة حضارية في مواجهة الآخرين. اما الحساب العددي فلم يعطه الاسلام أهمية وأولوية في البناء الاجتماعي.

وعلى ضوء ذلك نلاحظ أن القرآن الكريم، بينّ في مواضع كثيرة أن الحساب العددي لا يعني القوة ولا يعني الموقف الصحيح. فقد تكون الكثرة على باطل وضلال، بينما تكون القلة على حق وهدى وأراد القرآن الكريم أن ينتزع شعور الخوف من قلوب المؤمنين حين ينظرون إلى أعدائهم وهم يتمتعون بقوى بشرية كبيرة، لكنهم يعانون من تخلخل اجتماعي أو تمزق داخلي يهدد وجودهم. كما في قوله تعالى:

(لا يُقاتلونكُم جميعاً إلا في قرى محصنةً أو من وراء جُدُر بأسهم بينهُم شديد تحسبهُم جميعاً وقلوبهُم شتّى ذلك بانهم قوم لا يعقلون)(1).

كما نقرأ في العديد من الآيات الكريمة ما يبين أن الكثرة هي في خندف الضلال، مما يعني أن القرآن الكريم يريد أن يزرع في قلب المؤمن الثقة بقوته وبقوة أهل الحق وإن قلوا. يقول تعالى:

(قلْ لا يستوي الخبيثُ والطيبُ ولو أعجبك كثرة الخبيث فتقوا الله يا أولي الألباب لعلكُم تفلحون)(2).

___________________________________

(1) سورة الحشر: 14.

(2) سورة المائدة: 100.

(وما وجدنا لأكثرهم من عهد وان وجدنا أكثرهم لفاسقين)(1).

(ولكن أكثرهُم لا يعلمون)(2).

(ولكن أكثر الناس لا يؤمنون)(3).

(ولكن أكثر الناس لا يشكرون)(4).

اننا نستخلص من هذه الآيات الكريمة ان الكم العددي لا يمثل في أكثر الاحيان مظهراً من مظاهر القوة الاجتماعية، لأنه يقوم على أساس ضعيف هو الضلال والكفر والمعصية. ولذلك لم يؤكد الاسلام على الكثرة العددية بقدر ما أكد على العلاقة الايمانية التي يجب أن تحكم المجتمع الاسلامي. فالرابطة الايمانية والسلوك القويم هو الذي يحقق للمجتمع تماسكه ويجعل منه وحدة بشرية قوية، تواجه العقبات والصعاب بروح معنوية عالية، وبثقة بنصر الله وتأييده.

ولو نظرنا إلى انطلاقة الاسلام الاولى، فاننا نجد أن القلة المؤمنة أستطاعت أن تتغلب على مخططات الاعداء وأرهابهم وكل أساليبهم المضادة، بفضل تماسكها وايمانها بينما فشل معسكر الكفر رغم أنه كان من الكثرة العددية والمادية ما يفوق المؤمنين باضعاف عديدة. وهذا ما تحدث عنه القرآن الكريم في أكثر من آية:

(إذ تستغيثون ربّكم فاستجاب لكُم أني مُمدّكم بألف من الملائكة مردفين)(5).

___________________________________

(1) سورة الاعراف: 102.

(2) سورة الاعراف: 186.

(3) سورة هود: 17.

(4) سورة البقرة: 243.

(5) سورة الانفال: 9.

(إذ يُريكهُمُ اللهُ في منامك قليلا ولو أراكهُمْ كثيراً لفشلتُم ولتنازعتُم في الأمر ولكن الله سلم إنهُ عليم بذات الصدور وإذ يُريكموهُم إذ التقيتُم في أعينكُم قليلا ويقللكُم في أعينهم ليقضي اللهُ أمراً كان مفعولا وإلى الله ترجعُ الأموُر)(1).

(يا أيها النبيُّ حرّض المؤمنين على القتال إن يكن منكُم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكُم مائة يغلبوا ألفاً من الذين كفروا بأنُهم قومٌ لا يفقهون * الان خففَّ اللهُ عنكم وعلم أنَّ فيكُم ضعفاً فان يكن منكم مائةٌ صابرةٌ يغلبوا مائتين وإن يكن منكُم ألف يغلبوا ألفين باذن الله واللهُ مع الصابرين)(2).

لقد اعتبر القرآن الكريم ان مقياس النجاح والفشل في الموقف انمايكون على اساس الايمان، وعلى أساس التنظيم والتخطيط أما الحساب الكمي فهو مقياس غير موضوعي، لا يمكن أن يحسم الموقف. فالمسلمون في واقعة حنين كانت لهم الكثرة العددية، لكن هذه الكثرة بدل أن تكون عامل قوة، فانها تحولت الى عنصر ضعف، لأنهم أعتبروها مقياساً للنصر. وفي ذلك يقول عزّوجل:

(لقد نصركُم اللهُ في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكُم فلم تُغن عنكم شيئاً وضاقت عليكُم الارضُ بما رحُبت ثم وليتم مدبرين * ثمّ أنزل اللهُ سكينتهُ على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنوداً لم تروها وعذّب الذين كفروا وذلك جزاءُ الكافرين)(3) ان للمواجهة وللمواقف السياسية ظروفها الموضوعية التي تحتاج إلى دراسة كافة ابعاد الموقف وتقدير العناصر الحقيقية للقوة، واعتماد المنهج العلمي للتخطيط وغير

___________________________________

(1) سورة الانفال: 43 ـ 44.

(2) سورة الانفال: 65 ـ 66.

(3) سورة التوبة: 25 ـ 26.

ذلك من الاسباب التي تتطلبها المواقف والتي يجب أن تتم في جو ايماني وتتحرك بروح عالية وتنطلق بتخطيط واع.

ان هذه الاسباب كلها هي التي تحقق التوازن المطلوب في الموقف، وهي التي تحدد بعد ذلك النصر باذن الله تعالى. وهذا ما نقرأ أيضاً في الآيات القرآنية التي تؤكد على ضرورة الاعداد والتخطيط والاهتمام بالتماسك الاجتماعي.

(وأطيعوا الله ورسولهُ ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا ان الله مع الصابرين)(1).

(واعدّوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدوَّ الله وعدوكُم)(2)

وإلى جانب ذلك يقدم القرآن الكريم صورة الانسان المؤمن الذي يتحرك من قاعدته الايمانية الصلبة مشكلا في حركته ما يشبه الوحدة الاجتماعية. فهو يعيش الايمان الكامل بالله تعالى، ثم يواجه الآخرين بيقين ثابت بان الله معه في كل خطوة.

(إن ابراهيم كان أمةً قانتاً لله حنيفاً ولم يكُ من المشركينَ)(3).

بهذه الروح العالية واجه إبراهيم عليه السلام مجتمعه المشرك وحطم أصنامه دون أن يشعر بالخوف منهم ومن انتقامهم لأنه يؤمن بخطوته ويؤمن بان عمله في سبيل الله تعالى.

وقد ورد عن الرسول (ص) قوله: (المؤمن وحده جماعة). وهذا الحديث الشريف يعطي انطباعاً واضحاً بان الحساب الكمي لا يمتلك تأثيراً على نفسية المؤمن، بل ان رسالية الموقف هي الحساب الموضوعي في المواجهات وفي الدعوة إلى الله

___________________________________

(1) سورة الانفال: 46.

(2) سورة الانفال: 61.

(3) سورة النحل: 120.

سبحانه.

كما أن هذا الحديث يُبين معالم القوة الحقيقية التي يمتلكها الانسان المؤمن بمفرده، حين يتوافر على القوة الايمانية والروحية العالية. ونفهم من الحديث أيضاً أن دور المؤمن لا يقف عند حد معين ولا تعيقه الحسابات المادية فهو يتحرك في كل اتجاه وفي كل مان يمكن من خلاله أن ينشر رسالته، وان يتخذ الموقف الاسلامي المطلوب.

وقد روي عن حماد السندي قوله:

قلت لأبي عبد الله جعفر بن محمد عليهما السلام: إني أدخلُ بلاد الشرك وإن من عندنا يقولون: إن متّ ثمَّ حشرت معهم. قال: فقال لي: (يا حماد اذا كنت ثمَّ، تذكر أمرنا وتدعو اليه ؟) قال: قلت: نعم. قال: (فاذا كنت في هذه المدن مُدن الاسلام تذكر أمرنا وتدعوا إليه ؟). قال: قلت: لا. فقال لي: (إنك إن تمت ثمَّ تحشر أمة وحدك ويسعى نورك بين يديك).

ان هذه الاحاديث تبين لنا أن المؤمن وحده يؤدي دوراً اجتماعياً بمفرده من خلال موقفه الايماني والرسالي(1).

بعدما قدمنا من حديث نلاحظ ان الانسان المسلم يتحمل مسؤولية كبيرة في التعامل مع مجتمعه وفق ضيغة من العلاقة المتزنة التي تعمق الترابط بين المسلمين. وان عليه أن يرسم خط العلاقة معهم بشكل يعيش فيه الاخوة الحقيقية مع أبناء دينه. وهذا الخط يتضمن توازناً دقيقاً في المشاعر الذاتية والمشاعر الجماعية فيحرص عليهم مثل حرصه على نفسه وأهله.

كما ان الجماعة الاسلامية لابد أن تعيش الوحدة الاجتماعية في أعماقها لتحافظ على التوازن الاجتماعي فيما بينها من جهة، وفيما بينها وبين قيادتها من جهة أخرى. وفي

___________________________________

(1) فرضت الظروف السياسية على العديد من العاملين الهجرة إلى بلاد الغرب، وقد مارس هذا القسم من العاملين مهمته الرسالية بأخلاص وقوة رغم اختلاف الثقافة والعادات الاجتماعية.

ذلك كله يشكل الانسان الوحدة البنائية الاساسية في عملية التماسك الاجتماعية وخدمة الرسالة وأهدافها.

*         *         *

الفصل الثالث .. التوازن في العمل الحركي

ان ممارسة العمل الاسلامي وسط المجتمع وعلى الساحه السياسية من الامور المعقدة في حياة العاملين. لا لأن العمل الاسلامي تكليف ثقيل، بل لأن انجازه يحتاج إلى دراسة واسعة تتناول طبيعة الظروف الفكرية والاجتماعية والسياسية التي تعيشها الامة، وكذلك تقدير دقيق للمؤثرات العامة في الساحة. ومن ثم رسم المنهجية الحركية التي يسير عليها العاملون باتجاه أهدافهم الاسلامية الكبيرة.

وعلى هذا فان الدراسة الميدانية هي المقدمة الموضوعية للعمل، لكنها ليست عملية بسيطة، حيث ستتوقف كل الخطوات القادمة على النتائج المستخلصة من هذه الدراسة. ورغم ذلك فان طبيعة العمل الاجتماعي والسياسي أن يفرز متغيرات متفاوتة الدرجات خلال المسيرة بحكم الظروف الطارئة التي سيواجهها أثناء المسير، وبحكم ردود الافعال الصادرة من الاعداء سواء كانوا وجودات سياسية أو سلطات حاكمة.

ان كل هذه الاجواء والظروف تتجمع لتجعل من العمل الاسلامي مهمة شاقة في حياة العاملين. مما يتطلب منهم التوافر على شخصية متوازنة في التفكير والتعامل والتخطيط والتنفيذ. وبعكس ذلك فان العمل سيقع ضحية الارباك والانفعال، الأمر الذي يجر العاملين إلى زوايا خطرة وربما انتكاسات تهدد مستقبل التحرك بأسره.

ونتيجة لسعة دائرة العمل الاسلامي وتوزعه على مجالات وآفاق عديدة، فان من الضروروي أن يحقق العاملون للاسلام التوازن في جوانب عديدة. وهذا ما نلخصه في المحاور التالية التي تناقش التوازنات في الشخصية الحركية:

1 ـ العلاقة بين العاملين داخل الحركة.

2 ـ علاقة العاملين بالحركة.

3 ـ العلاقة بين العاملين والأمة.

العلاقة بين العاملين داخل الحركة

تعطي العلاقة بين العاملين في اطار الحركة الواحدة، انطباعاً بانهم يعيشون وحدة متماسكة متينة. وهذه هي الحالة الصحيحة والمطلوبة. فافراد الحركة لابد أن يكونوا مشتركين في الخط الفكري العام وفي تفصيلات الاسلوب والموقف، إلى جانب تماسكهم الاجتماعي في نطاق الحركة، على أساس أن مهمتهم التغييرية الاسلامية وسط الامة، وما تتعرض له من تحديات تستلزم قوة داخلية متراصة تمنحهم القوة.

فضلا عن كون التماسك القائم على اسس أخوية هو ما يدعو إليه الاسلام. وأن من واجب العاملين أن يكونوا أكثر من غيرهم التزاماً بتعاليم الاسلام واخلاقه الانسانية.

غير أن هذه الحالة لا تمثل خطاً ثابتاً في اتجاه العلاقة بين أفراد الحركة، فقد تتعرض إلى حالات تأزم أو فتور فيما بين العاملين مما يضعف الوحدة الداخلية للحركة بدرجات متفاوتة الشدة، حسب طبيعة تلك الحالات.

ولعل هذه من الظواهر التي يمكن ملاحظتها في كل حركة باعتبار أن منشأها يرتبط بالجانب النفسي للانسان بالدرجة الكبرى.

وفي حقيقة الأمر، ان ضعف الجانب الايماني وسيطرة الهوى على الانسان العامل، تجعله يتناسى دوره الرسالي وعلاقاته الاخوية مع بقية العاملين. فيدخل معهم في أزمات تضعف الترابط الاخوي، وتتحول هذه الحالات الفردية إلى ظاهرة واسعة حين يتسع نطاقها داخل الجسم الحركي.

ويعطي عادة هؤلاء الافراد تبريرات حركية لمواقفهم، حيث يُظهرون ان اختلافهم مع بعضهم البعض انما جاء نتيجة اختلاقهم في التصورات ووجهات النظر فيما يخص شؤون العمل. لكن تظل هذه التبريرات مجرد غطاء يخفي السبب الحقيقي، وهو غلبة أهواء النفس على الجانب الايماني للفرد العامل.

ومن الطبيعي أن تشغل هذه الحالات الحركه عن مهماتها الرئيسية. وتضع في طريقها مشاكل جانبية، تمتص قوة اندفاعها، وتستهلك طاقاتها في صراعات داخلية لا طائل منها.

وقد تتطور حالة التأزم الداخلي لتصل في درجاتها المرضية إلى اتجاهات لها وجوداتها داخل جسم الحركه حيث تظهر المحورية والانشقاقات والتكتلات. وبذلك تتصدع الحركة داخلياً. وربما تفقد العديد من أفرادها الذين يفضلون الابتعاد عن اطارها، والاستقلال في عمل خاص بهم، تحت تأثير الضغط النفسي الكبير الذي يعانونه، وبفعل الازمة الحادة في العلاقة مع بقية أعضاء الحركة. وربما يصل الامر إلى مستوى العداء والكراهية. وحينذاك تتحول الحركة الواحدة إلى حركتين ـ أو أكثر ـ تتنافس احداهما الاخرى على المواقع ومجالات التحرك، مما يضعف بالنتيجة التحرك الاسلامي ويشغله عن أهدافه الحقيقية ويفقده قوة التأثير على الامة وعلى مجريات الاحداث.

ان تمتع قسم من العاملين بمستوى ثقافي وحركي قد يولد في داخلهم احساساً بالتفوق على غيرهم. ويصبح مقياس العلاقة الحركية عندهم قائماً على أساس المستوى التنظيمي وليس المقياس الاخوي النابع من قيم الاسلام فيبدأ هؤلاء بالتحسس من غيرهم، لاسيما وان ظروف العمل قد تفرض عليهم أن يشاركوا غيرهم في المهمة والمسؤولية على قدم المساواة داخل الحركه. وهذا ما يجعل المعجبين بقدراتهم يخلتقون الاعذار للانتقاص من بقية العاملين. وتحدث الازمة ويحدث التصدع. وبذلك بدل أن تكون الكفاءة عنصر قوة وبناء فانها ستتحول إلى عامل هدم.

لقد عشنا مثل هذه الحالات وعاشها غيرنا في أجواء العمل الاسلامي المختلفة. وشعرنا بسلبياتها وتبعاتها الخطيرة على التحرك على التحرك الاسلامي. انها ليست حالات نظرية مجردة بل هي واقع حي يلمسه العاملون في حياتهم الحركية، ووجدناانها تنبع من أهواء الذات، حيث يسقط بعض العاملين ضحية الاختلال في التوازن بين الجانب الايماني وبين الجانب العملي، فيعطون للثقافة والكفاءة الحركية أهمية تفوق أهمية الجانب الايماني. وهذا هو الخطأ الكبير.

وقد يحدث في حالات كثيرة ان هؤلاء الاشخاص الذين يعيشون أزمة علاقة داخل الحركة لا يعيشون مثلها مع الامة. فتراهم يتعاملون مع أفراد الامة بخلق اسلامي رفيع، لكن هذه الاخلاقية لا تدخل معهم إلى جسم الحركة. وهذه الازدواجية تمثل أيضاً خللا في الشخصية، إذ ان الخلق وحدة سلوكية لا تتجزأ، فليس من الاتزان أن يكون الفرد متمسكاً بتعاليم الاسلام الاخلاقية في دائرة اجتماعية محددة دون غيرها من الدوائر. ان الشخصية المتزنة تعيش الخلق الاسلامي في كل الدوائر والمجالات كسلوك ثابت، فلا فرق بين المنزل والحركة والمجتمع.

ان هذا التعامل المزدوج يعني أن هؤلاء العاملين يحترفون العمل الحركي وليسوا حركيين بالمعنى الحقيقي. فالعامل للاسلام كيان متماسك يعيش التوازن كسمة أساسية في شخصيته، فلا يطغى جانب على آخر بالشكل الذي يربك مواقفه أويخلق عنده ازدواجية في التعامل وفي السلوك.

ان سيطرة هذه الحالات على وقاع الحركه وبالصورة التي تتحول فيها إلى ظاهرة يعني الحكم على الحركه بالتصدع والتفكك، وبدل أن تكون وحدة اجتماعية متماسكة تقدم نموذجاً للمجتمع الاسلامي الصحيح، فانها تصبح تجمعاً لافراد مختلفين يغيب وسطهم شعور المحبة وتختفي روابط الاخوة، وان كانوا منضوين في اطار واحد.

اننا لا نجد حلا لمثل هذه الحالات غير التأكيد على ضرورة أن تقوم علاقات العاملين فيما بينهم على اساس المنهج الاسلامي. فحين تسود علاقات الحب بين العاملين، فان المظاهر السلبية في العلاقة ستزول وتختفي ولن يكون للاهواء منفذ لتحطيم أواصر الحب. وهذا يعني أن التربية الايمانية لابد أن تكون هي المنهج الاساس في حياة العاملين.

(ولا تستوي الحسنة ولا السيئة إدفع بالتي هي أحسن فاذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم)(1).

(إنما المؤمنون إخوةٌ فاصلحوا بين أخويكم)(2).

___________________________________

(1) سورة فصلت: 34.

(2) سورة الحجرات: 10.

(إنَّ الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا باموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض)(1).

وعن الرسول (ص):

(ودُّ المؤمن للمؤمن في الله من أعظم شعب الايمان، ألا ومن أحب في الله وأبغض في الله وأعطى في الله ومنع في الله فهو من أصفياء الله)(2)

وعن الامام الباقر (ع):

(إذا أردت أن تعلم أن فيك خيراً فانظر إلى قلبك فان كان يجب أهل طاعة الله ويبغض أهل معصيته ففيك خير والله ـ يحبك ـ وإذا كان يبغض أهل طاعة الله ويحب أهل معصيته فليس فيك خير والله يبغضك والمرء مع من أحبه)(3).

ويروى أن مُعلى بن خنيس سأل الامام الصادق (ع): ما حق المسلم على المسلم. قال: (سبع حقوق واجبات ما منهن حق إلا وهو عليه واجب، إن ضيع منها شيئاً خرج عن ولاية الله وطاعته ولم يكن لله فيه من نصيب). قال: جعلت فداك وما هي ؟. قال: (يا مُعلى أني عليك شفيق أخاف أن تضيع ولا تحفظ وتعلم ولا تعمل). قال: لا قوة إلا بالله. قال (ع): (أيسر حق منها أن تحب له ما تحب لنفسك وتكره له ما تكره لنفسك، والحق الثاني أن تجتنب سخطه وتتبع مرضاته وتطيع أمره، والحق الثالث أن تعينه بنفسك ومالك ولسانك ورجلك، والحق الرابع أن تكون عينه ودليله ومرآته والحق الخامس (ان) لا تشبع ويجوع ولا تروي ويظمأ ولا تلبس ويعرى، والحق السادس أن يكون لك خادم وليس لأخيك خادم فواجب أن تبعث خادمك فيغسل ثيابه ويصنع طعامه ويمهد فراشه، والحق السابع أن تبر قسمه

___________________________________

(1) سورة الانفال: 72

(2) جامع السعادات 3: 183.

(3) جامع السعادات 3: 183.

وتجيب دعوته وتعود مريضه وتشهد جنازته، واذا علمت أن له حاجة تبادره إلى قضائها ولا تلجئه أن يسألكها ولكن تبادره فاذا فعلت ذلك وصلت ولايتك بولايته وولايته بولابتك)(1)

هذه هي الاسس التي يجب أن يعتمدها العاملون في علاقاتهم مع بعضهم البعض ـ ومع افراد الأمة ـ فهم يتحملون مسؤولية كبيرة تهدف إلى تغيير المجتمع على أساس الاسلام لتكون مناهجه وتعاليمه هي السائدة وهذا ما يجعلهم أكثر التصاقاً بالنهج الاسلامي وبالاخلاقية الاسلامية من غيرهم. وقد دمّ الله تعالى أولئك الذين لا يلتزمون عملياً بما يقولون وبما يدعون إليه. يقول عز وجلّ:

(يا ايها الذين آمنوا لم تقولون مالاتفعلون كبُرَ مقتاً عندَ الله أن تقولوا ما لا تفعلون)(2).

ويقول عزّ من قائل:

(أتأمرون الناس بالبرّ وتنسونَ أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون)(3)

وفي أجواء العمل كنا نسمع من يقول أن العلاقة داخل الحركه تختلف عن العلاقة مع الامة، فداخل الحركة لابد ان تكون العلاقة حازمة لاتخضع للمجاملة على اعتبار انها علاقة عمل تستلزم الحزم والصرامة. بينما مع أفراد الامة لابد من التعامل بلين ورقة ومرونة.

والواقع ان هذا الكلام لا يعكس فهماً دقيقاً للعمل الاسلامي، فالعمل الاسلامي لا ينفصل عن المنهج العام للاسلام، بل هو مستوحى منه، وهو يستند إلى أخلاقيته وتربيته فليست هناك أزدواجيه في الاخلاق أو في التعامل، انما هو أسلوب واحد.

___________________________________

(1) اصول الكافي 2: 136.

(2) سورة الصَّف: 3.

(3) سورة البقرة: 44.

ان الحزم والصرامة مسألة مهمة في العمل، لكن الحزم لا يعني الخشونة أو التأزم أو القطيعة، انه يعني الالتزام بالمنهج الحركي وبضوابطه حتى لا يكون هناك تمييع في المواقف وتضييع للمهمات وهو ما لا يتعارض مع العلاقة الاخوية.

كما ان مسألة النقد داخل هيكل الحركة هي من المسائل التي اتخذت في الحلات المرضية كمبرر على تأزم العلاقة، لكن النقد في حقيقته لا يُضعف الرابطة الاخوية بين العاملين، بل ان المفروض في حالته أن يعززها ويقويها، اذا كان نقداً هادفاً يتقدم به الأخ إلى أخيه ناصحاً وموجهاً حتى يصحح الآخر أخطاءه في سلوكه ومواقفه. فالنقد عملية بناءة وضرورية في العمل الحركي وفي الحياة الاجتماعي بشكل عام.

يقول الرسول (ص):

(لينصح الرجل منكم أخاه كنصيحته لنفسه)(1).

وعن الامام الباقر (ع):

(يجب للمؤمن على المؤمن النصيحة)(2)

ان ازمة العلاقة داخل الحركة الاسلامية لاتقبل أي تبرير سوى انها ناشئة من ضعف التربية الايمانية وغلبة الهوى عند الافراد الذين يوجد نقص بأواصر الاخوة، ما يستدعي تقوية هذا الجانب في الشخصية الحركية حتى لا يختل توازنها، وحتى لا تخسر الحركة فيما بعد تماسكها.

___________________________________

(1) المحجة البيضاء 3: 406.

(2) المصدر السابق 3: 313.

علاقة العاملين بالحركة

من الصعب تسليط الاضواء على كافة أبعاد العلاقة بين الفرد والحركه التي يعمل في أطارها، فهذا الحديث يحتاج إلى دراسة موسعة خاصة. لكننا نحاول هنا دراسة المظاهر التي تشكل خللا في الشخصية الحركية والتي تؤثر سلباً على توازنها.

في البداية تسلط الضوء على علاقة الفرد بحركته من الاتجاه الذي يبعد الفرد عن النهج الحركي الصحيح، ويسيء إلى شحصيته مما يسبب خللا في علاقته بها.

ان أهم سمات العمل الحركي الناجح هو علاقة القاعدة بقيادتها وفق صيغ محددة من الثقة والطاعة والمراقبة. إلا أنه في بعض الحالات تتعرض هذه العناصر المهمة إلى التصدع نتيجة عوامل عديدة قد تفرضها الظروف الصعبة والاجواء النفسية للفرد العامل. فقد يشعر الفرد في فترة من الفترات ان حركته بطيئة في سيرها، أو انها لا تمتلك تصوراً واضحاً للظرف السياسي والاجتماعي الذي تعيشه. فيسيطر عليه أحساس كبير بانه يتمتع بقدرة على التشخيص والتقدير أكثر منها، وفي هذه الحالة لايعد يثق بكفاءة الحركة، مما يفقده الثقة بدورها المؤثر على الاحداث وعلى الامة.

وحين تغيب هذه الثقة فان قرارات الحركة وتعليماتها لا تعد كالسابق تمثل عنده مواقف صائبة، فيبيح لنفسه التمرد عليها، أو عدم الالتزام بها، وهذا ما عشناه وشاهدناه عملياً، كما أن العديد من التجارب الاسلامية في ساحات مختلفة شهدت مثل هذه الظواهر المرضية        ولا نستطيع القول ان الفرد العامل لا يمكنه ان يبلغ المرحلة التي يفوق فيها حركته برهافة الحس السياسي والاجتماعي، فهناك بعض العاملين يتمتعون بمستوى حركي عال وثقافة اسلامية واسعة ونظرة فاحصة تستكشف الامور والمواقف أكثر من القيادة. لكن المهم هو كيف يوظف هؤلاء العاملون كفاءاتهم ايجابياً ؟.

ان العمل الحركي يعني تفاعلا جماعياً بين العاملين داخل جسم الحركه، وان كفاءة الافراد ليست من الشؤون الفردية بحيث يمكن عزلها عن بعضها البعض، بل هي عناصر قوة تخص الحركة كلها، وتساهم في تقويتها حين تتضافر الجهود وتلتقي الكفاءات. وهذه الميزة هي من الميزات الايجابية للعمل الجماعي المنظم.

وعلى هذا فان قدرات الافراد يجب أن توظف بالشكل الذي يخدم قدرة الحركه فالقيادة جهاز تنظيمي لا ينفصل عن القاعدة الحركية، فهي تزداد كفاءة فيما لو رفدتها القاعده بالتصورات والآراء السديدة. بينما تظل القيادة معتمدة على قدراتها الذاتية فيما لو انفصلت عنها القاعدة ـ أو انفصلت هي عنها ـ ولم تضع تحت تصرفها ما يخدم مادة القرار.

كما أن العمل الحركي يعتمد بصورة كبيرة على المراقبة المتبادلة بين القيادة والقاعده. فمن الضروري ان تتبادل الاثنتان نظرة المراقبة من أجل التسديد وإبداء الملاحظات بغية تصحيح الاخطاء وتوجيه المواقف وإلفات النظر إلى المسائل المهمة. وهي مسؤولية متبادلة بين كافة مفاصل العمل الحركي، حيث يحتاج فيها البعض للبعض الآخر مهما كانت مستوياتهم الحركية أو الثقافية أو السياسية.

ان احتفاظ الفرد بتصوراته ورؤاه دون اثراء حركته بها، تعبر عن حالة ذاتية ضيقة، وهي التي تجره فيما بعد إلى مواقف خاطئة تخلق حاجزاً بينه وبين حركته، الأمر الذي يجعل من كفاءته كفاءة معطلة. وهذا خلل كبير في طريقة التعامل مع القابليات الذاتية، إذ لا قيمة تترتب على القدرات الشخصية اذا ما ظلت محبوسة في اذهان أصحابها. ان هذه الحالة لا تتناسب مع المسؤولية الحركية التي يتحملها الافراد العاملون في سبيل الله تعالى.

وفي حالات اخرى يكون الاحساس بالتفوق على الحركة ناشئاً من تعامل انفعالي مع الاحداث والمواقف ففي الظروف الصعبة يفكر البعض بطريقة انفعالية، مما يجعلهم يتصورون ان حركاتهم غير فاعلة، أو ان قياداتهم غير كفوءة وانها لا تواكب الحدث وانها متخلفة في ميدان العمل السياسي والاجتماعي. وحين تتعاظم هذه الاحاسيس في نفوسهم فانهم يفضلون تغيير مواقعهم إلى عمل حركي آخر، أو الابتعاد كلياً عن العمل السياسي وقد راقبنا من هذه الحالات، كما راقبنا أيضاً عودة البعض من هؤلاء إلى عملهم السابق، بعد أن اكتشفوا بالتجربة انهم لم يكونوا واقعيين في احكامهم، وانهم تصرفوا بدافع الانفعال بعيداً عن الواقعية.

ان من الضروري ان يحتفظ العامل بثقته بقيادته وحركته وان يحافظ على الضوابط التنظيمية داخل الحركه، وان ينظر إلى نفسه على انه جزء منها يتحمل مسؤولية التغيير والعمل في سبيل الله تعالى، في علاقة تبادلية تقوي الكيان الحركي كله. وبذلك تتماسك الحركة وتتمكن من مواصلة المسيرة.

ويحدث احياناً أن يتأثر العاملون بتجربة من تجارب العمل السياسي الاسلامي في ساحة من ساحات العمل، فيعتبرونها النموذج المثالي الذي يجب أن تحتذيه كل حركة اسلامية في كل في كل الساحات، حتى تستطيع أن تحقق المكاسب التي تحققت في تلك الساحه. ويصل الحماس عند هؤلاء العاملين إلى المستوى الذي يمارسون فيه شتى الضغوط على قياداتهم من أجل حملهم على اعتماد الاسلوب الجديد والتخلي عن الاسلوب القديم.

كما قد يحدث أن بعض العاملين يلتقون فيما بينهم على تصورات خاصة للظرف السياسي والاجتماعي ويمارسون ضغطهم على القيادة لاقناعها بان الاجواء أصبحت مناسبة لخطوه جديدة، وان المضي على السبيل الاول فيه اضاعة للوقت والجهد.

وفي هذه الحالات وعندما لا تستجيب القيادة لضغوطهم ولا تقتنع بوجهات نظرهم فانهم قد ينسحبون من العمل في تكتل خاص بهم، أو أنهم قد يمضون في برنامج عمل خاص بهم.

ان هذه الحالات افراز للطبيعة الانفعالية عند بعض الحركيين خصوصاً وان تماس العاملين مع الاجواء السياسية وتحركهم وسط ظروف صعبة قد يجعلهم يستعجلون الزمن فيسعون إلى قطع الشوط بأسرع ما يمكن. وتسبب هذه السرعة ضياع الجهود السابقة لأنهم سيصطدمون بحسابات الواقع التي لا تخضع للانفعال والحماس. وعادة يصعب تصحيح مثل هذه الاخطاء، لأن الموقف السياسي لا بد أن تعقبه أستجابة أو ردة فعل. ولهذا فان الخطوة الخاطئة لا يمكن تصحيحها بخطوة إلى الوراء.

وتتضح صعوبة مثل هذه المواقف في أجواء الصراع السياسي، فمثلا العمل المسلح ضد السلطة الحاكمة، من المسائل التي تحتاج إلى دراسة واعية تستوعب الساحة بكل عناصرها ومؤثراتها، وتحتاج إلى تقدير دقيق لقدرات الحركة، واحتمالات ردود الفعل الحكومية، ودرجة استجابة الامة وغير ذلك من الامور التي تربط بتحول كبير كالعمل المسلح.

ومن هنا فان قرار الثورة ليس قراراً سهلا يمكن اتخاذه في جو عاطفي تلتهب فيه المشاعر والاحاسيس الثورية عند العاملين فيقررون أشعال الثورة والبدء بالعمل المسلح ضد السلطة الحاكمة.

ان خطوه واحدة على طريق الثورة، لا يمكن بعدها العودة بسلام إلى حالة ما قبل الثورة، لأن الموقف يخرج عن دائرة الحركة ويصبح قضية واسعة تتصل بموقف الجماهير، ويترتب عليها الموقف المضاد للسلطة.

ويمكن أن تتصور كيف سيكون مستقبل الحركة فيما لو قرر بعض أفرادها خوض العمل المسلح بمعزل عن أرادة الحركة وتوجهاتها. ان من السهولة ان نكتشف حجم الارباك الذي يسببه موقف كهذا بالنسبة للحركة، انها ستتعرض لهجوم مضاد من قبل السلطة، في الوقت الذي لم تستعد فيه لظروف المواجهة وبذلك فانها تستقع ضحية أنفعال بعض القواعد المتحمسة.

ليس من السهولة اتخاذ القرار الحركي، انه عملية صعبة تحتاج الى موازنة دقيقة بين كل الحسابات والاجواء والظروف. فهو لا يمس عدد محدود من العاملين ولا فئة معينة من الامة، بل هو يخص البناء الحركي كله والقاعدة الجماهيرية كلها.

وعلى هذا فان الشخصية الحركية لا بد ان تتمتع بالتوازن الحركي المطلوب، فتتجرد عن الانفعال وعن مشاعر الحماس، وان تحترم رأي الحركه وقراراتها، لأنها تهم الجميع ولأن ما يترتب عليه يمس العمل الاسلامي بماضيه وحاضره ومستقبله.

العلاقة بين العاملين والأمة

تمثل علاقة العاملين للاسلام مع مجتمعاتهم الاختبار الصعب في حياتهم، فمهمة الداعية هي مع الامة، حيث يسعى إلى تغييرها على اساس الاسلام فكراً وسلوكاً من أجل تحكيم المنهج الاسلامي في حياتها. وهي مهمة شاقة بلا ريب خصوصاً وان الفترة المعاصرة من تاريخ الامة الاسلامية قد شهدت غزواً ثقافياً مبرمجاً قام به الاستعمار ضد البلاد الاسلامية وأستطاع ان يصنع أجيالا تفكر بطريقة غريبة عن الاصالة الاسلامية، وتعتمد سلوكاً اجتماعياً بعيداً عن اخلاق الاسلام. وقد حقق ذلك عبر رسمه للمناهج التربوية والتعليمية ابتداءً من المراحل الاولى للدراسة وحتى نهايتها، وعبر سيطرته على اجهزة الدعاية والاعلام والثقافة، وكذلك تأسيسه للكثير من المؤسسات والهيئات ذات الصفة الاجتماعية التي ساهمت من جانبها في بث الفكرة الغربية المنحرفة. كما كان للاحزاب السياسية الكافرة أو العلمانية تأثير كبير في السيطرة على عقلية قطاع كبير من أبناء الامة.

كل ذلك جعل مهمة العاملين للاسلام مهمة شاقة ومعقدة، اذ أصبح عليهم أن ينتزعوا جذور الثقافة المستوردة من نفوس الناس ثم يزرعوا الفكر الاسلامي مكانها، ويقنعون الناس على نبذ العادات والسلوكيات المنحرفة واعتماد الاخلاقية الاسلامية.

ومن الطبيعي ان تحتاج هذه المهمة التغييرية الى جهود كبيرة وان تسنغرق وقتاً طويلا وسط مشاكل وعقبات كثيرة تثار امام العاملين من قبل اعداء الاسلام، أو حتى من قبل الاوساط الاسلامية نفسها، حيث يثير التقليديون اشكالاتهم على العمل الحركي وعلى اساليبه ومتبنياته.

ان هذه الظروف الصعبة التي يواجهها العاملون في مهمتهم التغييرية تتحول عند بعضهم الى ضغوط نفسية ضخمة. وذلك حين ينظر هؤلاء إلى ما حققوه من نتائج، فيجدون ان الجهد الكبير الذي بذلوه والوقت الطويل الذي أعطوه لا يتناسب مع بساطة المكاسب التي حققوها، إذ لم يؤمن بهم سوى نفر قليل من أبناء الامة، مما يجعلهم يواجهون انتكاسة نفسية مؤلمة.

وقد يجد بعض العاملين ان الامة لم تقف الى جانبهم خلال المحن التي يمرون بها، ولم تنصرهم في المواقف الحرجة والدقيقة. فكانوا وحدهم يتعرضون للملاحقة والارهاب. بينما الامة تسمع وتشاهد معاناتهم ومأساتهم دون أن تبدي ردة فعل مؤثرة تنقذهم أو تؤازرهم.

تجتمع هذه التصورات في نفوس هؤلاء العاملين فيتولد عندهم شعور بعدم الثقة بمجتمعهم وربما يتحول إلى سخط وكراهية ونفور. فيرون في مجتمعهم انه غير جدير بالجهود المبذولة، وانه مجتمع راكد لا فائدة فيه ولا يرتجى خير منه.

وبذلك ينكمش هؤلاء عن المجتمع بعد أن تسيطر عليهم مشاعر السخط والكراهية، ويتحولون من عاملين للأسلام وسط الامة إلى فئة معزولة عنها، أو على الأقل فئة لا تؤمن بطاقات الامة ولا تثق بقدراتها ودورها.

ان هذه الحالة تعبر عن خلل في الشخصية، لأن الشخصية الحركية المتزنة هي التي تؤثر في المجتمع، لا أن تتأثر بالظواهر الاجتماعية وبالمواقف المضادة فتسقط ضحية ردود الافعال وتفقد حركيتها.

لقد واجه كل أصحاب الرسالات السماوية مشكلة عناد الناس وصدودهم عن نداءات الحق. ومع ذلك لم ينعزلوا عن الساحة، ولم يتخلوا عن دعواتهم الالهية. وقد حدثنا القرآن الكريم عن تلك التجارب المريرة التي خاضها الرسل والانبياء عليهم السلام.

فالنبي نوح عليه السلام واجه صدوداً متشدداً من قبل قومه، رغم طول الفترة التي قضاها معهم في تبليغ رسالته، مستخدماً أساليب عديدة في دعوته. لكن ذلك لم يغير من موقفهم العنيد. يحدثنا القرآن عن معاناة النبي نوح عليه السلام كما جاء على لسانه:

(قال رب إني دعوتُ قومي ليلا ونهاراً. فلم يزدهم دعائي إلا فراراً * وإني كلما دعوتُهُم لتغفّر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابَهُم وأصرّوا واستكبروا استكباراً * ثُمّ إني دعوتُهم جهاراً. ثُمّ إني أعلنت لهم وأسررتُ هلم إسراراً)(1).

ويتضح من هذه الآيات الكريمة ان نوح عليه السلام لم يتخذ موقفاً منعزلا عن قومه، بل انه جرب معهم كل الاساليب الممكنة في دعوتهم إلى الايمان بالله وبرسالته. ولم يكن عناد قومه قائماً على أسس موضوعية فهم لم يرفضوا دعوته لأنهم يمتلكون فكراً مقابلا لفكرته، انما كان موقفهم صادراً من عقلية متصلبة جامدة لا تريد الدخول في حوار فكري وترفض الاستماع إلى أقواله لأنهم لايملكون رغبة النقاش والمناظرة.

ورغم ادراكه عليه السلام ان جهوده لم تعد تسفر عن تغيير قومه، إلا أنه مضى في رسالته، حتى أوحى الله تعالى اليه لن يؤمن من قومك إلا من آمن وحينذاك أخذ نوح عليه السلام يدعو عليهم بالفناء. ولم يكن دعاؤه محاولة للانتقام والثأر لنفسه، بل انه وجد في بقاء الكافرين ما يعيق الرسالة، ويؤثر على القلة المؤمنة، لا سيما وان محاولات التغيير استنفذت اغراضها ولم يعد بالمكان اضافة أي أحد الى الصف المؤمن.

لقد جرب نوح عليه السلام كل الوسائل، حتى بلغ الأمر أنهم قاطعوا دعوته، فكانوا يصمون آذانهم ويغشون وجوههم لكي لا يستمعوا إلى ما يقول. وهي ممارسة من شأنها ان تترك أثراً سلبياً عميقاً في نفس الداعية، وقد تجعله يصاب بردة فعل عنيفة تجاه مجتمعه. إلا أن النبي نوح عليه السلام ليس من هذا الطراز، انه صاحب رسالة يدرك ان مسؤوليته أكبر من الانفعالات والمشاعر والضغوط النفسية، فمضى في دعوته إلى آخر الطريق، وكانت الثلة القليلة التي آمنت به هي حصيلة

___________________________________

(1) سورة نوح: 5 ـ 9.

دعوته الطويلة والتي تعتبر أطول دعوة من حيث الزمن عاشها صاحب رسالة مع قومه.

وفي قصة النبي هود عليه السلام مع قومه عاد، يحدثنا القرآن الكريم في مواضع عديدة عن تجربته. فلقد كان لقومه مدنية راقية تتوفر فيها أسباب القوة والراحة، فبعث الله تعالى اليهم هوداً ليرشدهم الى طريق التوحيد ونبذ عبادة الاوثان لكنهم رفضوا دعوته واصروا على وثنيتهم.

(والى عاد أخاهم هوداً قال يا قوم اعبدوا الله مالكُم من إله غيرُهُ إن أنتهم إلا مُفترون * يا قوم لا اسئلكم عليه أجراً إن أجري إلا على الذي فطرني أفلا تعقلون)(1).

وقد واجهه قومه بالتهم والاهانات فرموه بالسفه والجنون. لكنه استمر في دعوته، ولم يؤمن به سوى القليل ووصل عناد قومه وتحديهم لدعوته انهم ألحو عليه ان ينزّل عليهم العذاب الذي كان ينذرهم به. فكان جوابه عليه السلام:

(قال إنما العلمُ عند الله وأبلغكُم ما أرسلتُ به ولكني أراكُم قوماً تجهلون * فما رأوهُ عارضاً مُستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض مُمطرنا بل هو ما استعجلتُم به ريحٌ فيها عذابٌ أليم)(2).

وواضح من جوابه انه لم يتصرف برد فعل على تحديهم، انما ترك الأمر لله تعالى ليفعل بهم ما يشاء. اما هو فقد كان ماضياً على نهجه في الحفاظ على استمرارية الدعوة رغم ما يواجهه من تكذيب وعناد واصرار.

ويضعنا القرآن الكريم امام تجربة النبي صالح عليه السلام مع قومه ثمود.

___________________________________

(1) سورة هود: 50 ـ 51.

(2) سورة الاحقاف: 23 ـ 24.

(والى ثمود أخاهُم صالحاً قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيرُهُ هو أنشأكُم من الأرض واستعمركُم فيها فاستغفروه ثَّم توبوا إليه إنَّ ربي قريبٌ مجيبٌ * قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجواً قبل هذا أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب)(1).

لقد كان جواب قومه ينطوي على استهانة برسالته، فهم يعتبرون أن ماجاء به يقلل من قيمته الاجتماعية عندهم، وان مكانته قبل الدعوة كانت تختلف في فعتها عنها بعد اعلان دعوته وهو جواب قاس من جهة، كما أنه من جهة أخرى يحرك نوازع النفس لأن تتخلى عن الرسالة من أجل أن تحافظ على مكانتها الاولى. لكن النبي صالح عليه السلام لم يكن مقياسه الاعتبارات الاجتماعية للمجتمع الكافر. فمثل هذه المقاييس مرفوضة عنده، لأنه جاء ليغيرها من الجذور. ان المكانة الاجتماعية تفقد قيمتها الحقيقية اذا ما فقد الانسان رسالته، فلا قيمة لأي موقع اجتماعي اذا كان صاحبه لا يؤمن بالله ورسالته. ولا قيمة لأي منزلة وسط الناس اذا كانت على حساب التخلي عن الدعوة.

ان صالحاً عليه السلام لم يتأثر بهذه الاعتبارات الوهمية وواصل دعوته الالهية بقوة وصلابة وعزم.

وحين قتل قومه الناقة التي بعثها الله اليهم، كتعبير عن رفضهم لدعوته وكفرهم بالله تعالى، فانه عليه السلام لم يتخل عن دعوته بدافع اليأس أو الانفعال، ولم يدعُ عليهم بالموت والهلاك، لكن الله تعالى أوحى اليه ان يخبر قومه بان الله تعالى سينزل عذابه عليهم بعد ثلاثة أيام ما لم يتوبوا. لكن تحذيره لم يغير موقفهم، واستمروا في

___________________________________

(1) سورة هود: 61 ـ 62.

غيهم وكفرهم، حتى أهلكهم الله سبحانه في مضاجعهم بصاعقة من السماء.

ثم يحدثنا القرآن الكريم في مواضع عديدة عن تجربة نبي الله موسى عليه السلام، ومعاناته الكبيرة طوال فترة رسالته، فقد كانت له معاناة طويلة مع فرعون وجماعته حتى نجاه الله تعالى مع بني اسرائيل من ظلم فرعون في خوضهم البحر وهلاك فرعون. لكن موسى عليه السلام وجد في قومه انحرافات خطيرة عن خط الرسالة ومنهجها التوحيدي الذي استغرق الكثير من جهوده. فبعد نجاتهم من فرعون، مرّوا بجماعة يعبدون الاصنام فطلبوا منه ان يجعل لهم آلهة كما لهم آلهة.

ثم حدث بعد ذلك في قصة الميقات انحراف آخر، فبعد ان تركهم موسى عليه السلام لمناجاة الله تعالى عند جبل الطور، وخلال غيبته صنع السامري لقومه عجلا من الحلي له خوار، وقال لهم هذا إلهكم وإله موسى فصدقه بنو اسرائيل.

ورغم ذلك فان موسى عليه السلام لم يتخل عن رسالته ومضى يصحح الانحراف ويعالج الخلل فيهم لكنهم عادوا إلى انحرافهم وإلى خروجهم عن طاعته وذلك حين طلب منهم ان يستعدوا لتحرير الارض المقدسة من الكفر والشرك. إلا أن دعوته هذه قوبلت بالامتناع.

كانت تجربة موسى من التجارب القاسية في تاريخ الرسالات، حيث واجه عليه السلام التراجعات المتلاحقة من قبل قومه الذين آمنوا به. فقد كانوا يمارسون الانحراف على مستوى الفكرة والموقف، لكنه لم يتراجع عن دعوته وظل ماضياً في نهجه التغييري حتى النهاية.

وحدثت مثل هذه التجارب القاسية مع كل الانبياء والرسل والتي تحدث عنها القرآن الكريم مبيناً ما كان يعانيه أصحاب الدعوات السماوية من ضغوط نفسية واجتماعية وسياسية. لكنهم كانوا رغم كل شيء يواجهون الرفض والعناد والتصلب بروح عالية تستوعب الموقف المضاد وتحاول ان تعالج الانحراف وتهدي الضالين. كانوا يسيرون في طريق الدعوة إلى آخر شوط فيه، ولم يصب أي منهم باليأس أو التراجع.

ونجد في التجربة النبوية الكثير من المضامين الرسالية العالية والدروس الحركية الكبيرة حول علاقة صاحب الرسالة بأمته، واخلاصه لأمته ورسالته معاً. فلقد تعرض الرسول (ص) إلى شتى صور الارهاب الفكري والنفسي والجسدي، ومع ذلك لم يتراجع عن رسالته، ولم يتخل عن موقعه التغييري، بل انه لم يتخذ موقفاً نفسياً معادياً لقومه، حيث ظل ينظر اليهم نظرة العطف والاشفاق، رغم انهم كذبوه وآذوه وحاربوه. كان (ص) يشفق عليهم من كفرهم واصرارهم على الباطل.

وكان الرسول (ص) يعاني من مواقف المشركين، لكن معاناته لا تنعكس على مواقفه، انه يعيش المعاناة في داخله كشعور نفسي خاص لا يتجاوز اطاره الشخصي كما يحدثنا القرآن الكريم:

(ولقد نعلمُ أنك يضيقُ صدرك بما يقولون * فسبح بحمد ربك وكُنْ من الساجدين)(1).

وكان (ص) يعيش حالات حزن مؤلمة ما يراه من عناد قومه وتكذيبهم لدعوته، فيخفف عنه الله تعالى مشاعر الحزن والألم بقوله عز وجل:

(فلا تأس على القوم الكافرين)(2).

(فلعلك باخعٌ نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً)(3)

(فلا تذهب نفسُك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون)(4)

وهكذا فان القرآن الكريم يؤكد على ضرورة المضي في طريق الرسالة، وعدم

___________________________________

(1) سورة الحجر: 97 ـ 98.

(2) سورة المائدة: 68.

(3) سورة الكهف: 6.

(4) سورة فاطر: 8.

فسح المجال امام المشاعر النفسية لأن تسيطر على المهمة الرسالية. فالانفعال النفسي هو مما يعيق الدور الرسالي لأنه سيفرز حالة من التراجع أو التراخي فيضعف الاندفاع في نشر الدعوة.

ويبين القرآن الكريم فيما يتعلق بتجربة الرسول (ص)، ان المواقف المتصلبة من قبل الكافرين ازاء الرسالة الالهية، ليست هي بالشأن الشخصي الذي يرتبط بين الناس والداعية، انما هي قضية رسالية كبيرة ترتبط بموقف الضالين من الله تعالى. يقول عزّ وجل:

(قد نعلمُ انّهُ ليحزنك الذي يقولون فانهم لا يكذبوك ولكن الضالين بآيات الله يجحدون)(1).

(ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إنهم لن يضروا الله شيئاً)(2).

وفي ضوء ذلك يتضح ان المهمة الرسالية ليست مهمة شخصية ترتبط بموقع العامل الاجتماعي من حيث النجاح أو الفشل، انها مهمة الهية يتحمل مسؤوليتها العامل في سبيل الله. وعليه ان يؤدي هذه المسؤولية بكل ما يستطيع من قوة واصرار ومواصلة، فيجرب كل الاساليب المتاحة ويسلك كل الطرق، حتى لا يترك حجة على للآخرين.

ان ما نستخلصه من تجارب الانبياء عليهم السلام في رسالاتهم يمكن أن نلخصه بالتالي:

1 ـ ان الدعوة إلى الله مسؤولية كبيرة يتحملها الانسان العامل، مما يفرض عليه أن يتعامل مع جانبها الشرعي وليس مع عواطفه ومشاعره. فليس امامه خيار الابتعاد عن الساحة وترك مجالات العمل في سبيل الله تعالى.

___________________________________

(1) سورة الانعام: 33.

(2) سورة آل عمران: 176.

2 ـ ان الحساب العددي في زيادته ونقصه لا يمثل مقياساً على نجاح المهمة الرسالية أو فشلها، ولا يتصل بالجانب الشخصي على الاطلاق. فمعظم الرسالات السماوية آمن بها عدد قليل من الناس، فيما كفر الأغلبية.

3 ـ الارهاب والمعاناة والمحنة هي الاجواء الطبيعية التي يواجهها العاملون في سبيل الله، لأنهم يهدفون إلى تغيير الواقع الاجتماعي والفكري والسياسي من أسسه وهذا ما يواجه بطبيعة الحال بردود فعل قاسية من قبيل التكذيب والارهاب والاهانة وغير ذلك من الممارسات المعادية.

4 ـ لابد للعاملين في سبيل الله تعالى من التمتع بالصبر. فالصبر هو العنصر الاساس الذي يحافظ على اتزان الشخصية الرسالية في مهمتها التغييرية، ولو فقدت هذا العنصر أو ضعف فيها، فان هذه الشخصية ستفقد توازنها، وتعجز عن استكمال مهمتها. وقد بينّ لنا القرآن الكريم القيمة العظيمة للصبر في حياة العاملين في العديد من الآيات الكريمة.

(وكأين من نبي قاتل معهُ ربّيون كثيرٌ فما وهنوا ما أصابهُم في سبيل الله وما استكانوا واللهُ يحبُ الصابرين)(1).

(واصبروا إنَّ الله مع الصابرين)(2).

(يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون)(3).

(واصبروا على ما أصابك إنّ ذلك من عزم الامور)(4).

___________________________________

(1) سورة آل عمران: 146.

(2) سورة آل عمران: 125.

(3) سورة آل عمران: 200.

(4) سورة لقمان: 17.

(واصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل)(1).

(واسماعيل وادريس وذا الكفل كل من الصابرين)(2).

(ولقد كُذّبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذّبوا وأوذوا حتى أتاهُم نصرنا)(3).

(إنما يُوفى الصابرون أجرهُم بغير حساب)(4).

*         *         *

ومن الحالات التي شاهدناها عن قرب في ساحات العمل الاسلامي ان بعض العاملين ينطلق في مهمته التغييرية من قناعة كبيرة بضرورة اعتماد الاسلوب غير المباشر في الدعوة الى الاسلام، على اعتبار ان بُعد القاعدة الاجتماعية عن الاسلام لفترات زمنية طويلة، جعلت طرح الفكرة الاسلامية بصورة مباشرة عملية غير ناحجة، لأن الناس سيواجهونها بالصدود. خصوصاً وانهم تلقوا تربية منحرفة ركزت في أذهانهم صورة مشوهة عن العقيدة الاسلامية، فصارت تعني عندهم الطقوس والعادات القديمة التي لا تنسجم مع تطور الزمن والحياة.

ويفهم هؤلاء ان الاسلوب غير المباشر في العمل الاسلامي يعني مسايرة المجتمع في ممارساته التي لا تتعارض مع الاسلام، من أجل كسب رضا الناس ومحبتهم، ومن ثم يمكن التأثير عليهم اسلامياً.

ويحدث في مثل هذه الحالات ان ينساق هذا القسم من العاملين مع الممارسات والافكار اللااسلامية بشعور منهم أو عدم شعور على أمل أن يحققوا مكاسب كبيرة فيما بعد. وقد يحدث أن يمارس العامل سلوكاً منافياً للاسلام وربما يبتعد عن الاسلام

___________________________________

(1) سورة الاحقاف: 35.

(2) سورة الانبياء: 85.

(3) سورة الانعام: 34.

(4) سورة الانفال: 47.

بدرجات كبيرة.

ان هذه الطريقة في فهم الاسلوب طريقة خاطئة، اذ ان الاسلوب غير المباشر لا يعني مسايرة الناس في انحرافهم أوتصوراتهم الخاطئة. انما يعني تجنب المباشرة التي قد تولد ردة فعل عند الطرف الآخر فيرفض الفكرة بسرعة. فمن الافضل طرحها عليه بأسلوب هاديء لا يثير عنده حالة نفور سريعة.

كما ان محاولة اخفاء الهوية الاسلامية دون وعي وتخطيط، مسألة مرفوضة في المواقف التي لا تقتضيها ضرورات العمل وأساليب المواجهة. ان العاملين للاسلام يجب أن يطرحوا أنفسهم بقوة وثقة ماداموا على الحق وغيرهم على الباطل. واخفاء الهوية ينبعث من احساس بالضعف وعدم الثقة، وهذا ما يتعارض مع الشخصية الحركية التي يجب أن تمتلك القوة والثقة بقدرتها على التغيير وبقدرة العقيدة الاسلامية على الصمود والانتصار امام الافكار المنحرفة.

اننا نجد في الحديث المأثور عن الامام الصادق (ص): (كونوا دعاة للناس بالخير بغير ألسنتكم ليروا منكم الاجتهاد والصدق والورع). اننا نجد في هذا الحديث ما يؤكد على ضرورة ان يتحرك العاملون بعنوانهم الاسلامي مع تحليهم بالاخلاق الاسلامية. ولقد لمسنا أهمية هذا الاسلوب في طرح الهوية الاسلامية امام الناس خلال أجواء العمل، حيث كان للشخصية الرسالية المتزنة دورها في التأثير على قناعات الناس وتغيير بعضهم اسلامياً. كما أن الكثير منهم كان يتعاطف مع العاملين حين مرت بهم ظروف أرهابية قاسية، لأنهم عاشوا معهم عن قرب ووجدوا منهم الاخلاص والصدق والامانة وما إلى ذلك من أخلاق اسلامية رفيعة.

لقد وقف الاسلام موقفاً حازماً ازاء التوجه السابق في العمل. وقد وردت بعض الآيات القرآنية التي تخاطب الرسول (ص) باسلوب تتضح منه القوة. حيث قال عزّوجل:

(قل إنَّ هدى الله هو الهدى ولئن اتبعق أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير)(1).

(ولئن اتبعت أهواءهُم منْ بعد ما جاءك من العلم إنَّك إذاً لمن الظالمين)(2).

(وأن أحكم بينهم بما أنزل اللهُ ولا تتبع أهواءهُم واحذرهُم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل اللهُ إليك فان تولّوا فاعلم إنما يريدُ الله أن يُصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيراً من الناس لفاسقون)(3).

(وكذلك أنزلناه حكماً عربياً ولئن اتبعت أهواءهُم بعدما جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا واق)(4).

ان الشدة في هذا الخطاب القرآني توضح لنا مدى خطورة هذا الاتجاه على العمل الاسلامي. واذا كانت شخصية الرسول (ص) هي مما لا يمكن لها أن تتأثر بمظاهر الانحراف لكونه (ص) معصوماً مسدداً من قبل الله تعالى. فان الانسان العادي حين يؤمن بهذه الطريقة التي يحاول من ورائها ارضاء الناس كأسلوب لأقناعهم بأفكاره، يكون مهدداً بالانحراف عن أصالته الاسلامية.

ان العاملين للاسلام يواجهون صغطاً نفسياً هائلا وصعوبات عملية كبيرة، والتوازن في شخصياتهم هو ان لا يصابوا بالاعباء أو ردة فعل تجاه مجتمعاتهم حين ترفض أفكارهم وتقابهلم بالصدود. والتوازن أيضاً هو ان لا يتأثروا بالافكار البعيدة عن الاسلام حين يحتكون بها خلال العمل. والتوازن كذلك ان لا يكون

___________________________________

(1) سورة البقرة: 120.

(2) سورة البقرة: 145.

(3) سورة المائدة: 49.

(4) سورة الرعد: 27.

عندهم شعور بالضعف أو الخجل من عقيدتهم في الاوساط المبتعدة عن الاسلام. ان التوازن يختل اذا ما فقدت الشخصية شيئاً من صبرها أو ثباتها أو اصالتها أو قوتها.

*         *         *

وكذلك من الحالات الخاطئة في مجال علاقة العاملين بالامة ما يحدث أحياناً من نظرة اثنينية يمتلكها بعض العاملين حول الحركه والامة. فهم ينظرون إلى حركاتهم الاسلامية على أنها تمثل الحالة الاسلامية الصحيحة فيشعرون داخلها بالراحة النفسية والانسجام العاطفي. لكن هذا الشعور يختفي مع الاوساط الاجتماعية الواسعة باعتبار انها لا تتمسك بالاسلام وان فيها الكثير من الممارسات المنحرفة عن المنهج الاسلامي.

ورغم ان لهذه المشاعر ما يبررها إلا أن المفروض أن لا تتحول النظره الى فرز اجتماعي يميز بين الحركة والأمة، ثم يعطي للاولى افضلية على الثانية. اذ ان مهمة العاملين انماتكون في الاوساط الجماهيرية وليست داخل الحركة، وان بعض المسؤوليات التي يمارسونها داخل جسم الحركة، هي من متطلبات العمل، وهي تصب بالنتيجة في الميدان الاجتماعي.

ومن النتائج التي تترتب على هذه النظرة ان العاملين للاسلام سوف يمارسون نشاطاتهم من أجل جعل الحركة محور عملهم وساحتهم الاولى بدل الامة. وقد يصل بهم الحال إلى محاولة جعل الوسط الجماهيري في خدمة الحركة وليس ان يكون العمل الحركي في خدمة الجماهير وهذا يعد ابتعاد عن المنهج الحركي الصحيح، لأن المسؤولية الحركية تعني ان يتوجه العاملون للأمة من أجل تغييرها، فيضعون طاقاتهم في خدمة هذا الهدف. اما الحركة فهي الاطار العملي الذي يوجه الطاقات وينظمها ويحدد الاساليب التي تحتاجها العملية التغييرية.

وعلى هذا فان النظرة الاثنينية بين الحركة والامة والتي تفرز موقفين في التعامل هي نظرة خاطئة تحرم الامة من طاقات بعض العاملين، وربما تتسبب في ضعف الرابطة بين الحركة والامة، وبالتالي ضعف الدور المؤثر للحركة على الامة.

وقد لاحظنا في بعض ظروف العمل خلال الفترة الماضية ان هذه الحالة برزت نتيجة أسباب أخرى لا نريد الخوض فيها هنا، ولقد نجم عنها الكثير من الممارسات والمظاهر الخاطئة، حيث توجه قسم من العاملين في نشاط معكوس من وجهة النظر الحركية، اذ أنهم ركزوا نشاطاتهم من أجل دفع الامة إلى أن تكون رصيداً لبعض الكيانات الحركية لتخدم توجهاتها الخاصة. وقد حدث ذلك في وقت كانت فيه الجماهير بحاجة ماسة إلى من يعالج أوضاعها الثقافية والنفسية والاجتماعية. وكانت هناك مناطق خلل كبيرة في الدائرة الاجتماعية، لكن انشغال العاملين بشؤونهم الحركية الخاصة أبعدهم عن الاوساط الجماهيرية إلا بمقدار ما يحقق رغبتهم تلك.

ان على العاملين للاسلام ان لاتسيرهم الظروف الطارئة أو حالات الانفعال في طريق بعيد عن مسؤوليتهم الحقيقية فتختل عندهم مقاييس الاولويات ويختل عندهم تبعاً لذلك مستوى العمل الحركي. انهم لابد أن يراجعوا خطوات السير بدقة ووعي، وان ينظروا إلى مواقع أقدامهم حذر الابتعاد عن الطريق العملي الصحيح.

(وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون)