أَهميّة  الأدب في حياة المسلم

 

الحمد الذي جعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، والحمدلله الذي أنزل علينا هذا الدين ، وأنزل فيه الأدب الذي تصلح به الحياة، هذا الأدب - الذي هو من صميم هذا الدين -أمرٌ قد غفل عنه كثير من الناس، و هو ضروريٌ للمسلم مع ربّه سبحانه وتعالى ومع  الرسل ومع الخلق عامّة ، وضروري للمسلم في جميع أحواله حتى في خلوته مع نفسه. ولقد بيّن الإسلام كيف ينبغي أن يكون عليه حال المسلم في طعامه وشرابه، وفي سلامه وأستئذانه، وفي مجالسته وحديثه ، وفي جِدّه ومزاحه ، وفي تهنئته وتعزيته ، وفي عطاسه وتثاؤبه ، وفي قيامه وجلوسه ، وفي معاشرته لأزواجه وأصدقائه ، وفي حلّه وترحاله ، ونومه وقيامه ، وغير ذلك من الآداب التي لاحصرلها.

ومنها آداب أوجبها الله - سبحانه وتعالى - على الصغير والكبير، والمرأة والرجل ، والغني والفقير، والعالم والعامّي ، ذلك حتى يظهرأثر هذا الدين في واقع الحياة العملي ، ولاشك أن هذه الآداب التي جاءت بها الشريعة هي من جوانب عظمة هذا الدين لتقويم حياة الناس و تمييز المسلمين عن غيرهم ليظهر سمو هذه الشريعة وكمالها وعظمها . والدين أد بٌ ُكُلُّه.. فسترالعورة من الأدب ،والوضوء وغسل الجنابة من الأدب، والتطهر من الخبث من الأدب، حتى يقف العبد بين يدي الله تعالى طاهراً، ولذلك كان السلف رحمهم الله يستحبون أن يتجمل المرء  لربّه في صلاته، حتى كان لبعضهم حلةٌ عظيمة إشتراها بمالٍ كثير يلبسها وقت الصلاة، ويقول : ربي أحق من تجملتُ له في صلاتي، ولأن هذا المطلب مطلبٌ إسلامي عظيم، فتعالوا بنا نتعرف على معنى كلمة الأدب، وعلى بعض ماجاء في النصوص الشرعية حول هذه الكلمة وبعض أقوال العلماء فيها، وأنواع الأدب، ثم نتكلم -إن شاء الله - عن المقصود من هذا المبحث، وكيف المسير فيه.

تعريف الأدب:

أما الأدب فقد ذكر ابن فارس - رحمه الله - أن الأدب دعاء الناس  إذا دعوتهم إلى شيء ، وسمّيت المأدبة - مأدبة لأنه يدعى الناس فيها إلى الطعام ، والآدِب هو الداعي. وكذلك فإن الأدب أمر قد أجمع على إستحسانه . وعُرفاً مادعى الخلق إلى المحامد و مكارم الأخلاق وتهذيبها. وذكر ابن حجر - رحمه الله تعالى - في شرحه لكتاب الأدب من صحيح الإمام البخاري رحمه الله قال : الأدب استعمال ما يُحمد قولاً و فعلاً وعبر بعضهم عنه بأنه أخذ بمكارم الأخلاق ، وقيل الوقوف مع المستحسنات أو الأمور المستحسنة ، وقيل هو تعظيم من فوقك والرفق بمن دونك . ومما ورد في تعريف الأدب كذلك : حُسن الأخلاق، وفعل المكارم.

وسُمّي ما يتأدب به الأديب أدباً لأنه يأد بُ الناس إلى المحامد، ويدعوهم إليها.  وجاء في "المصباح " عن الأدب أ نّه : تعلم رياضة النفس ، ومحاسن الأخلاق . وقيل : الأدب ملكه تعصم من قامت به عما يشينه . وقال ابن القيم - رحمه الله  - الأدب إجتماع خصال الخير في العبد ومنه المأدبة في الطعام الذي يجتمع عليه الناس . فإذاً فيه معنى الدعاء إلى الشيء والإجتماع عليه . وكذلك يطلق الأدب في اللغه علىالجمع ،  والأدب هو الخصال الحميده .

أما استعمالات هذه الكلمة في كتب أهل العلم ، فإنها تأتي بمعنى خصال الخير مثل آداب الطعام وآداب الشراب وآداب النكاح وآداب القضاء وآداب الفُتيا وآداب المشي وآداب النوم ونحو ذلك ، وللعلماءفي هذا مصنّفات . ويُطلق بعض الفقهاء كلمة آداب على كل ماهو مطلوب سواءً كان واجبًا أو مندوبًا ، ولذلك بوّبوا فقالوا : آداب الخلاء والإستنجاء ، مع أن منها ما هو مستحب ومنها ما هو واجب . فكلمة أدب أو آداب لا يعني أنه مستحب فقط أو مندوبٌ إليه ، بل ربما يكون واجبًا ، ويُطلق  الفقهاء كذلك لفظة أدب بمعنى الزجر والتأديب كما جاء في حديث جعل السوط في البيت فإنه اُدبٌ لهم - يعني لأهل البيت - حسَّنه الشيخ ناصر بطرقه . فإذا قيل أد بّه بمعنى عاقبه وزجره و عزره ، إن من معاني كلمة الأدب كذلك ،

و كلمة الأدب تطلق أيضاً على  ما يتعلق باللغه من إصلاح اللسان ، وفن الخطاب ، وتحسين الألفاظ ، والصِّيانه عن الخطأ والزلل . وقد صنف ابن قتيبة- رحمه الله -  في ذلك " أدب الكاتب " . إذاً  فكلمة الأدب المستعملة في اللغة - مثل ما يرتبط بالشعر والنثر - هذه اللفظه مُولَّده حدثت في الاسلام، حيث أطلقوا على بعض الأشياء المتعلقه باللسان  من الشعر والنثر أدباً .. وهذا إطلاق باعتبار لغوي ، فالأديب هنا ، بهذا المعنى ، إطلاق لغوي - خاص -يتعلق باللغة و إصلاح اللسان وفن الخطابة .

كتب في الأدب:

وقد نثر الفقهاء الآداب على أبواب الفقه ، فذكروا في كل باب ما يخصُّه من الآداب ، ففي الإستنجاء مثلاً ذكروا آداب الاستنجاء - غير الأحكام الفقهية مما يجوز ولا يجوز - ذكروا أشياء من الآداب  ، وفي الطهارة كذلك بأقسامها ذكروا آدابها  ، وفي القضاء ذكروا آداب القضاء في كتب الفقه . وصنفت كتب خاصة بالأدب مثل كتاب : أدب الدنيا والدين ، للماوردى” ونظم ابن عبدالقوي - رحمه الله - منظومته المشهورة في الأدب والآداب ، وشرحها السّفّارني رحمه الله ومن قبله إبن مفلح الذي صنف كتاب " الآداب الشرعية ". فإذاً هناك كتب مجموعة في الآداب عموماً ، ومن أشهرها "الآداب الشرعية" لإبن مفلح ، و "غذاء الألباب شرح منظومة الآداب لإبن عبدالقوي " والشرح للسفاريني ، و كتاب " أدب الدنيا والدين" للماوردي ، وهناك كتب تتكلم بشكل مخصوص عن آداب معينة مثل : "تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم " لابن جُماعة - رحمه الله -،  و " الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع " - وهي آداب تتعلق بطلب العلم - للخطيب البغدادي - رحمه الله - و " أدب الإملاء والاستملاء" للسمعاني ، وهو إملاء الحديث وكتابته أي كيف يملى المحدث الحديث ، وكيف يكتبه عنه الطلاب ، ولذلك آداب ،  ولآداب  الفُتيا كتب ، منها كتاب " أداب الفُتيا " للسيوطي ، وكذلك " آداب الأكل " للأقفهسي ، و " آداب الأطفال " للهيثمي. وفي آداب البحث والمناظرة كتب ، مثل كتاب الشنقيطي ، وفي الصحبة كتب ، مثل " آداب الصحبة " للسلمي ، و هناك كتب في آداب التجارة ، وآداب الحوار، وآداب الزفاف، وآداب  معاملة اليتيم ، وآداب الطبيب. وهناك عدة كتب ، تتكلم في آداب مخصوصة ، حيث يصنّف الكتاب في أدب معين من الآداب.

أهميّة الأدب:

الأدب أمرمهم جداً، فهو من أبرز سمات الشخصيّة المسلمة ، ومظاهر تميّزها بهذا الدين، لذا فإنه يتحتم على الإنسان المسلم معرفة الآداب الشرعية ، والإلتزام بها في جميع الأمور، وقد حثَّ الإسلام المسلم على أن يعتني بالآداب في أحوال أولاده وذويه ولا يتغافل عنهم ويذكّرهم ويؤدبهم بآداب الإسلام ، كما قال تعالى: )ياأيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا(  [التحريم: 6]، قال عليّ - رضي الله عنه- : علّموهم وأدِّبوهم . وقال مجاهد - رحمه الله-: أوقفوا أنفسكم وأهليكم  بتقوى الله وأدّبوهم .ومماجاء في نصوص الشريعة في معاني الأدب والتأديب قول النبي صلى الله عليه وسلم ، كما جاء في الحديث الصحيح : ( ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين :-وذكرمنهم - ورجل كانت له أمة فغذاها فأحسن غذاءها ، ثم أ دّبها فأحسن تأديبها ،وعلٍّمها فأحسن تعليمها ، ثم أعتقها وتزوجها ، فله أجران) . وكذلك فقد جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلىالله عليه وسلم : ( كل شيءٍ  ليس من ذكر الله لهو ولعب إلا أن يكون أربعة : ملاعبة الرجل إمرأته ،  وتأديب الرجل فرسه ومشي الرجل بين الفرضين ، وتعليم الرجل السباحة ) رواه النسائي وهو حديث صحيح

و لفظة الأدب كذلك جاءت في حديث جابر - رضي الله عنه - عندما تزوج ثيّباً وسأله النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أنه تزوج بثيّب  فقال عليه الصلاة والسلام :( فهلاّ تزوجت بكرأ تلاعبها وتلاعبك قال يارسول الله : تو في والدي - أواستشهد - ولي أخوات صغار فكرهت أن أتزوج مثلهن فلا تؤدبهن ولا تقوم عليهن ، فتزوجت ثيباً لتقوم عليهن وتؤدبهن ) رواه البخاري  رحمه الله في كتاب الجهاد .

والأدب أنواعٌ فمنه :                 1- أدبٌ مع الله سبحانه وتعالي .

                                      2- أدبٌ مع رسوله صلى الله عليه وسلم .

                                      3- أدبٌ مع الخلق.

أمثلة الأدب مع الله سبحانه و تعالى:

أما الأدب مع الله عزوجل فله أمثلة كثيرة .. فمنها نهي المصلي عن رفع بصره إلى السماء كما قال شيخ الإسلام رحمه الله: هذا من كمال أدب الصلاة أن يقف  العبد بين يدي ربه مطرقاً خافضاً طرفه إلى الأرض ، فلا يرفع بصره إلى فوق . قال : والجهمية لم يفقهوا هذا الأدب ولا عرفوه ، لأنهم ينكرون أن الله فوق سماواته ، وهذا من جهلهم إذ من الأدب مع الملوك أن الواقف بين أيديهم يطرق إلى الأرض ولا يرفع  بصره إليهم فما الظن بملك الملوك سبحانه وتعالى .

وقال شيخ الإسلام في مسألة النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود أنها من الأدب  مع الله عزوجل لأن القرآن كلام الله قال : وحالتا الركوع والسجود ، حالتا ذ لّ وانخفاض  من العبد فمن الأدب مع كلام الله أن لا يُقرأ في هاتين الحالتين - يعني في الركوع والسجود- لأنهما حالتا ذُلٍّ  وانخفاض. وكذلك فإن من الأدب مع الله أن لا يُستقبل بيتهُ في قضاء  الحاجة ولا يُستدبر، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم . ورجّح ابن القيم - رحمه الله - أن هذا الأدب يعمُّ الفضاء و البنيان .

 ومن الأدب مع الله وضع العبد يده اليمنى على اليسرى حال القيام للقراءة في الصلاة ويضعهما على صدره خاشعاً ذليلاً بين يدي الله عزّ و جلّ.

و من الأدب مع الله السكون في الصلاة لما ذَكَرَ أهل العلم عن قوله تعالى :)الذين هم على صلاتهم دائمون(  [المعارج:23 ] ذكروا فيها معنيين، الأول: دائمون بمعنى مستقرون ثابتون لا يكثرون الحركة ، كما يفعل كثير  من الناس من تحريك النظارة والساعة وغطاء الرأس ، والعبث بالأنف واللحية والجيب ونحو ذلك من الأشياء ، ذلك أن هذا لا يعطي معنى الديمومة كما عبّر عنها القرآن الكريم:)على صلاتهم دائمون(، و المعنى الآخر: أي على صلاتهم يحافظون ، أي المحافظة على سكون الأطراف وطمأنينة الجوارح ، و المحافظة كذلك على وقتها ، فلا يخرجونها عن وقتها، فهم دائمون أي يداومون على الصلوات ويحافظون عليها في أوقاتها كما أنهم دائمون في الخشوع والطمأنينة . 

والأدب مع الله يكون في الظاهر والباطن ، ولا يستقيم عند العبد إلا بمعرفة أسمائه سبحانه وتعالى وصفاته، ومعرفة دينه وشرعه ، وما يحب ومايكره .

أدب الأنبياء والصالحين مع الله عزّ و جلّ:

لقد كان أدب الأنبياء والصالحين مع الله عزوجل كثيراً وعظيماً، ومن تأمل أحوالهم عرف ذلك . ألم ترى أن  المسيح عليه السلام عندما يسأله الله سبحانه وتعالى يوم القيامة: )أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين ( فلم يكن جواب عيسى عليه السلام " لم أُقل ذلك "، وإنما قال : )إن كنت قلته فقد علمته( ، فذلك من كمال أدبه مع ربه، ثم قال : ) تعلم ما في نفسي ولا اُعلم ما في نفسك إنك أنت علاّم الغيوب، ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم ..( إلى آخر الآيات [المائدة:116].

وكذلك أدب إبراهيم مع ربه لما قال : ) الذي خلقني فهو يهدين ، والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين( [الشعراء:79 ] ..، ما قال والذي يمرضني ويشفين، وإنما قال  )وإذا مرضتُ ( فنسب المرض إليه ، ونسب الهداية والطعام والسِّقا والشفاء إلى الله رب العالمين،  مع أن الله هو الذي يمرض ولا شك ، وهو الذي يشفي ، لكن لم يرد أن ينسب المرض إليه عزوجل ، أدباً مع الله سبحانه وتعالى ، وهذا من كمال أدب الخليل عليه السلام.

وكذلك الخضر عليه السلام - على الراجح  لأنه كان نبياً - إذ يقول: ) وما فعلته عن أمري( [الكهف:82 ] أي كان يفعل ذلك بالوحي من الله عزّ وجلّ، فإنه لماذكر السفينة قال: )فأردت أن أعيبها( [الكهف:79 ] ولما ذكر الجدار قال: )فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما( [ الكهف:82 ] ولم يقل فأرادربك أن أعيبها، وإنما قال فأرد تُ أن أعيبها ،فإن من كمال أدبه أنه لمّا صارت المسألة عيباً نسبه لنفسه ولم ينسبه لله عزّ و جلّ مع أن كل ذلك بأمر الله وحكمته.

وكذلك الصالحون من الجن قالوا: )وإنا لاندري أشرٌ أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربٌّهم رشداً ( [الجنّ:10] ، قالوا: " أشراً أريد بمن في الأرض " ما قالوا : "أشر أراده ربهم بهم، أم أرادبهم ربهم رشداً" .. فجعلوا الفعل مبنياً للمجهول تأد بّاً مع الله عزّ و جلّ.

وكذلك موسى عليه السلام لما نزل مدين قال : )ربِّ  إني لما أنزلت إلي من خير فقير([القصص:24 ]والمعنى أنا فقيرإلى خيرك يارب ومحتاج إلى فضلك ولم يقل : أطعمني .. مثلاً .

وآدم عليه السلام لمّا أٌهبط من الجنة إلى الأرض قال : )ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين  ([الأعراف:23] ولم يقل : ربِّ قدرت علي هذه المعصية وقضيت علي بها .. ونحو ذلك  ، بل نسب الظلم إلى نفسه: " ظلمتُ نفسي فاغفرلي" .

وكذلك قول أيوب عليه السلام : )إني مسني الضُّر وأنت أرحمُ الرحمين( [الأنبياء:83] وهذا أعظم أدباً من أن يقول فعافني واشفني، ثم قال : )وأنت أرحم الرحمين (. والأدب عند أنبياء الله طويل لاينتهي ..

ونذكر هنا جانباً من أدب الأنبياء مع المخلوقين، كان من أدب يوسف عليه السلام مع أبيه وإخوتِه حين قال لأبيه : ) قال هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا. وقدأحسن بي إذ أخرجني من السجن ( [يوسف:100] فلم يقل أخرجني من الجبِّ  مع أنه أخرجه من الجبِّ ! لأنه لا يريد أن يجرح مشاعر إخوانه تأدبًا معهم .

وكذلك فإنه لما جاء بإخوته وأهله ، قال : )وجاء بكم من البدو (  ما قال مثلاً : رفع عنكم الجهل والجوع والحاجه .. أوأنني فعلت ذلك لكم أوأنني أنقذتكم من الجوع ..والجهل . ثم قال : ) من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي (  فنسب الفعل إلى الشيطان، ولم يقل من بعد أن فعل بي إخواني ما فعلوا وظلموني ونحوذلك ..

وكذلك من الأدب مع الله سبحانه وتعالى أن يستر الرجل عورته وإن كان خالياً ..

أما نبينا صلى الله عليه وسلم فقد ضرب المثل العظيم في الأدب مع ربه عزّ و جلّ. ومن أمثلة ذلك ما يذكره المفسرون عند قوله سبحانه وتعالى : )مازاغ البصرُ وما طغى ( [النجم:17] أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ارتفع إلى  السماء لم يزغ  بصرهُ ولم يطغ  ، أي لم يزغ يميناً أو شمالاً ،  ولا  طغى فنظر أمام المنظور ، إنما كان مطرقًا خاشعًا.. "مازاغ البصروما طغى" فهذا صفة مقدمه صلى الله عليه وسلم على ربّه ، و يتجلّى في ذلك كمال أدبه عليه الصلاة والسلام .

الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم:

وكذلك فإنه ينبغي أن يعلم المسلم أن الأدب  مع النبي صلى الله عليه وسلم من أنواع الأدب العظيمة التي أوجبتها الشريعة المطهّرة.. وهذا يشمل أشياءً كثيرةً جداً ، فمن الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم التسليم له والإنقياد لأمره ، وتصديق خبره ، وتلقّيه بالقبول ، وعدم معارضته بحيث لا يُستَشكَل قوله وإنما تُستشكل الأفهام . ولا يُقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً ، ولا يدَّعي نسخ سُنته ، وكذلك لا ترفع الأصوات فوق صوته صلى الله عليه وسلم لأن  ذلك سبب لحبوط العمل ، وبعد وفاته صلى الله عليه وسلم لا ترفع الأصوات فوق حديثه إذا قُريء ولا عند قبره .

الأدب مع الخلق:

ويندرج تحت هذا الصنف نوعان من الأدب وهما آداب المخلوقين وآداب الأحوال، فالأدب مع الخلق  يشمل معاملتهم على إختلاف مراتبهم بما يليقُ بهم وبما يتوافق مع الشرع الكريم، فالأدب مع الوالدين يختلف عن غيره من الأدب و يجب مراعاته.. وكذلك الأدب مع العالم .. والأدبُ مع الأقرانِ .. والأدب مع الأجانب .. والأدب مع النساء المحارم والأجنبيات .. والأدب مع الضيف ..والأدب مع أهل البيت وغيرهم . هذا من جهه ما يتعلق بمن حولك من المخلوقين . أما الأحوال ففيها آداب عظيمة لكل أحوال المؤمن حتى لوكان بمفرده لايطّلع عليه إلا الله سبحانه وتعالى. ومن أمثلة آداب الأحوال آداب الأكل و النوم والخلاء واللباس والمشي والسفر والدخول والخروج والركوب والسكوت والإنصات وغير ذلك .. فمثلاً للأكل آداب يجب عليك الإلتزام بها حتى لو كنت تأكل و حدك .. فتُسمي ولو كنت لو حدك، وتأكل بيمينك ولوكنت لوحدك، ولا تأكل من وسط الطعام  و كنت بمفردك . وكذلك الحال في سائر آداب الأحوال .

في مظاهر أهميّة  الأدب :

 ولأجل عظم هذا الموضوع صنّف العلماء فيه تصنيفات عظيمة ، ولنعلم أن التمسك بالآداب الشرعية يقود إلى التمسك بالدين كله . ولذلك يقول الشيخ عبدالرحمن المعلم اليماني - رحمه الله في مقدمته لكتاب الأدب المفرد للبخاري :" قد أكثر العارفون بالإسلام المخلصون له من تقرير أن كل ما وقع فيه المسلمون من الضعف والخور والتخاذل ، وغير ذلك من وجوه الإنحطاط ، إنما كان لبعدهم عن حقيقة الإسلام وأرى أن ذلك يرجع إلى أمور -الأول : إلتباس ما ليس من الدين بما هو منه - خلط ما ليس من الدين بما هو من الدين مثل إدخال البدع مثلاً - ثانياً : ضعف اليقين بما هو من الدين - ضعف اليقين بما هو من الدين حقاً - وثالثاً : عدم العمل بأحكام الدين- ضعف العمل- " هذه الأشياء الثلاثة التي عليها مدار أسباب إنحطاط المسلمين .. فانظر رحمك الله إلىأسباب تخلف المسلمين وإنحطاطهم .

ثم قال رحمه الله تعالى :" وأرى أن معرفة الآداب النبوية الصحيحة في العبادات والمعاملات ، والإقامة ، والسفر ، والمعاشرة ، والوحدة ، والحركة ، والسكون ، واليقظة والنوم ، والأكل والشرب ، والكلام والصمت .. وغير ذلك، مما يعرض للإنسان في حياته، مع تحري العمل بها كما يتيسر ، هو الدواء الوحيد لتلك الأمراض . فإن كثيراً من تلك الآداب سهل على النفس ، فإذا عمل الإنسان بما سهل عليه منها ، تاركاً ما يخالفها لم يلبث - إن شاء الله تعالى - أن يرغب في الإزدياد ، فعسى أن لا تمضي عليه مُدة ، إلاّ وقد أصبح قدوة لغيره في ذلك .. وبالإهتداء بذلك الهدي القويم ، والتخلق بذلك الخُلق العظيم يستنير القلب ، وينشرح الصدر ، وتطمئن ُ النفس ، فيرسخ اليقين ، ويصلح العمل ، وإذا كُثر السالكون في هذا السبيل لم تلبث تلك الأمراض أن تزول إن شاءالله" . ثم أشار إلى قضية تصنيف الإمام البخاري رحمه الله لكتاب الأدب المفرد ، وقد أفردهُ عن صحيحه وجعل له أبواباً خاصة ، وقد تكلّم ابن حجر - رحمه الله - في أهمية هذا الكتاب حيث قال : "وكتاب الأدب المفرد يشتمل على أحاديث زائدة على ما في الصحيح ، وفيه قليل من الآثار الموقوفة ، وهو كثير الفائدة ". وقد شرحه الشيخ فضل الله الجيلاني، وخرّج أحاديثه وحقَّقه الشيخ محمد ناصرالدين الألباني . فالكتاب الآن مشروح ومحقّق .." كتاب صحيح الأدب المفرد للبخاري" - رحمه الله - وحسبك به وبمؤلفه .

أقوال العلماء في الأدب :

ومن بعض أقوال العلماء في الأدب يقول النبي صلى الله عليه وسلم وهو إمام العلماء: " إنَّ الهدي الصالح ، والسمت والإقتصاد جزءَ من خمسةٍ وعشرين جزءاً من النبوة "، فإذاً الأدب هو السمت الصالح .. حسن السمت والهدي الصالح .. هذا هوالأدب وقال النخعي - رحمة الله - :" كانوا إذا أتوا الرجل ليأخذوا عنه نظروا إلى سمته وصلاته و إلى حاله ثم يأخذون عنه ". فأول شيء ينظرون إليه أدب العالم والمحدث فإن وجدوه أديباً مؤدباً أخذوا عنه - ولذلك كان مجلس الإمام أحمد رحمه الله يجتمع فيه زهاء خمسة آلاف أويزيدون ، خمسمائة يكتبون الحديث والباقون يتعلمون منه حسن الأدب والسمت . 

وقال ابن عباس - رضي الله عنه -: " أطلب الأدب فإنه زيادة في العقل، ودليل على المروءه ، مؤنس في الوحدة وصاحب في الغربة، ومال عند القلة " . وقال أبو عبد الله البلخي :" أدب العلم أكثر من العلم ". وقال أبن المبارك رحمه الله :" لا ينبل الرجل بنوع من العلم ما لم يزيّن علمه بالأدب ".وكذلك قال  رحمه الله أيضاً :" طلبت العلم فأصبت منه شيئاً، وطلبت الأدب فإذا أهله قد  بادوا ".

وقال بعض الحكماء : " لا أدب إلا بعقل ، ولا عقل إلا بأدب "، وقال بعضهم : "رأيت من أراد أن يمد يده في الصلاة إلى أنفه ، فقبض على يده ". خرَجت واحدهٌ من يديه إلى الأنف فقبضت الثانية عليها وكفّتها.

وقال يحيى ابن معاذ : " من تأدب بأدب الله ، صار من أهل محبة الله ".

وقال ابن المبارك أيضاً : " نحنُ إلى قليل من الأدب أحوج منا إلى كثير من العلم ". فهناك أناس عندهم علمٌ كثير لكن ليس عندهم أدب ، ولذلك نَفَّروا الناسَ ، فحال إنعدامُ الأدب دون ما عندهم من العلم .

وسُئل الحسن البصري - رحمه الله - عن أنفع الأدب ، فقال :" التفقه في الدين، والزهد في الدنيا، والمعرفة بما لله عليك ".

ومن أحسن الكتب في الآداب وأكثرها تنظيماً .. وأجودها تصنيفاً .. " غذاء الألباب شرح منظومة الآداب" - للسفاريني ، حيث يقع في مجلدين . وقد شرح منظومة ابن عبد القوي ، وأكثر الآداب التي سنتكلم عنها من هذه المنظومة ، ويوجد في كتاب "الآداب الشرعية " لإبن مفلح مباحث نفيسه وجيدة، وتوسُّعٌ في بعض المباحث ، ولكن كتاب غذاء الألباب أحسن في جودة الترتيب وحسن التصنيف، فإنَّ السفاريني قد جاء بعد ابن مفلح وأخذ أشياء كثيرة عنه، واستفاد من كتابه، لكنّه رتّب كتابه -وإن كان يوجد فيه عبارات صعبة على المبتدئ في طلب العلم -.

وسيتناول البحث بالتفصيل - إن شاء الله - موضوع الآداب الشرعيّة الآتية :

آداب تلاوة القرآن .. آداب الضيف .. آداب العطاس والتثاؤب .. آداب الإنتعال .. آداب توقير الكبير ورحمة الصغير .. وكذلك أدب الجوار أو الجار.. آداب الحوار والمناظرة .. مايتعلق بالرؤى والأحلام .. آداب النكاح .. آداب الطعام والشراب أو آداب الأكل .. آداب الضحك والمزاح .. آداب المريض .. آداب المساجد .. آداب المشي .. آداب المصافحة والمعانقه والتقبيل .. آداب النوم .. آداب الهدية وآداب الوليمة . حيث سيتعرض البحث لكل واحد من هذه الأنواع بالشرح والتفصيل مع الأدله وأقوال العلماء وفروع أدب  كل جانب من هذه الجوانب .

منظومة الآداب لإبن عبد القوي:

هذه نظرة سريعة على منظومة الآداب لابن عبد القوي _ رحمه الله _ وقد افتتحها بقوله :

بحمدك ذي الإكرام مارمت أبتدي 

كثيراً كما ترضى بغير تحددي

وصلِ على خيرِ الأنامِ وآله

وأصحابِه من كل هادىٍ ومهتدي

وبعدُ فإني سوف أنظمُ جملةً

من الأدبِ المأثورِ عن خير مرشد

من السنة الغراء أو من كتاب من

تقدس عن قول  الغواة و  جُحَّدِ

ومن قول أهل العلم من علمائِنا

أئمة  أهل  السِّلم من  كل أمجد

لعل إله العرش ينفعنا به

وينزلنا في الحشر في خير مقعدِ

إلى من له في العلم والدين رغبةٌ

ليُصغِ بقلبٍ حاضرٍ مترصدِ

ويقبل نصحاً من شفيقٍ على الورى

حريصٍ على زجر الأنام عن الرَّدي

فعنديَ من علم الحديث أمانةٌ

سأبذلها جهدي فأهدي وأهتدي .

إلى كل من رام السلامة فليصن

جوارحه عما نهي الله يهتدي

 

 فكانت أول وصية في هذه المنظومة صون الجوارح عمّا حرم الله ثم قال :

 

                       يَكبُّ الفتى في النار حصدُ لسانه

                                         وإرسال طرف المرء أنكى، فقيِّدِ

 

هذا إشاره إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم :( وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخر هم إلا حصادألسنتهم ).

وإرسال طرف المرءِأنكى فقيّدِ: يعني قيّد طرفك .. لا تُصب بطرفك الحرام، ولاتنظر إلى ماحرم الله عليك.

               وطرف الفتى يا صاح رائد فرجه

                                  ومتعبه فاغضضه ما استطعت تهتدي

يعني إطلاق النظر يؤدي إلى الوقوع في الزنا. ومتعبه فاغضضه: يعنى الذين وقعوا في العشق والتعلق بالصور والأشكال ،من أيّ جهه أوتوا ؟! من النظر فأورثه التعب النفسي لأنه أصيب بالعشق. وخصوصاً إذا عشق امرأة متزوجه أو لاقدرة له على الوصول إليها فما ذايكون حاله ؟! في غاية التعب والسوء ، ولذلك قال :

         وطرف الفتى ياصاحِ رائدُ فرجِه        ومتعبه فاغضضه ما استطعت تهتدي..

ثم يقول رحمه الله:

    و  يُحرَمُ   بُهتٌ و اغتيابُ نميمةٍ                 وإفشاءُ سرٍّ  ثم   لعن    مقيّدِ

البهتان حرام ، إذا قلت في أخيك ما فيه فقد اغتبته، وإذا قلت ما ليس فيه فقد بهتّه ، قوله (نميمةً) أي يحرم المشي بين اثنين للإفساد بينهما بالكلام. وكذلك إفشاء السر لأن النبي صلى الله عليه وسلم  قال :( المجالس بالأمانة ) إذا حدّث الرجل حديثاً ثم التفت فهي أمانة فكذلك إذا استودعك سراً لا يجوز إفشاؤه . ثم لعنُ مقيّد: يعني لا يجوز لعن المُعَيَّن ..إلاّ إذا كان ممن لعنه الله بعينه كإبليس وأبي جهل وأبي لهب وقد ماتوا على الكفر ..فهؤلاء يجوز لعنهم ، لكن  اللعن لا يجوز للمعين ولو كان كافرأ على الصحيح لأنه قد يموت على  الإسلام  فيكون غير مستحق للعن، فإذاً لا نلعن المعيّن، و لكن لو لعنت الجنس فقلت : ألا لعنة الله على الكافرين .. ألا لعنة الله على الظالمين .. ألا لعنة الله على الكاذبين . فلا بأس ، لكن "لعنة الله على  فلان" أو"لعن الله فلاناً" بعينه .. لا يجوز إلا إذا لعنه الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم .

ثم يقول:

وفحشٌ ومكرٌ و البذا وخديعةٌ                      وسخريةٌ والهزءُ والكِذبُ قيِّد .

 البذاء: أي الألفاظ البذيئة .

 قيّد:  يعني قيّد نفسك عن هذه الأشياء ولا تطلق لسانك فيها .

 

    بغير خداع الكافرين بحربهم                 وللعرس أو إصلاح أهل التنكّدِ

إذاً الكذب يجوز إذا كان في خداع  الكافرين في الحرب لأن النبي صلى الله عليه وسلم  قال : ( الحرب خدعة).

أما معنى " وللعرس أو إصلاح أهل التنكّد "فجواز كذب الرجل على زوجته إذا خشي شقاقها أوأن تغضب عليه ، وإصلاح أهل التنكّدِ : الإصلاح بين المتخاصمين . 

    ويحرم مزمارٌ و  شُبَّابَة  و ما                      يضاهيهما من آلة اللهو والرَّدي

ذكر تحريم آلات اللهو والمعازف سواءً كان لها أوتارٌ أو ليس لها أوتار ، مزمار ، أو طبل،أو شبّابّه. كل ذلك حرام ، حتى لو ما كان معها غناءٌ ولذلك قال في البيت الذي بعده:

    ولو لم يقارنْها غناءٌ جميعُها                       فمنها  ذو  الأوتار   دون   تقيدِ

لا تُقيد بالأوتار لكن ذوات الأوتار كالعود والكامنجا والشبّابّه والربابه داخلةٌ فيها.

     ولا بأس بالشعر المباح وحفظِه                     وصنعتِه من رَدّ ذلك يعتدي

القاعده في الشرع أن الشعر حسنُه حسنٌ وقبيحُه قبيح ، وإذا كان لنصرة دين الله يكون عبادة ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لحسّان :( أهجهم و روح القدس معك) ، يعني جبربل يؤيدك و يثبتك ويناصرك :

 " صنعته "  يعني: لو صنعه ونظمه أيضاً .

" من ردّذلك يعتدي ": يعني من يحرّم الشعر كله حتى المباح فهو معتدي مجانب للصواب.

    فقد سمع المختارُ شعر ِصحَابِهِ          وتشبيبِهم من غير تعيين خُرَّدِ

يعني الشعر الذي فيه غزلٌ عفيف دون ذكر إمرأةٍ بعينها ، ودون الوصول إلى درجة الكلام على العورات و الأعراض وإثارة الشهوات .

    وحظر الهجا والمدح بالزور والخنا                وتشبيبه  بالأجنبيات   أكِّدِ .

الهجاء حرام في الشرع . وكذلك المدح بالباطل - وهو عمل الشعراء لأنهم يمدحون لأخذ الأموال - " بالزور "  قيّدَه بالزور لأن المدح الحق بما هو في الممدوح لا بأس به كما مدح النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والخلفاء الراشدون.

    ووصف الزنا والخمر والمُرْدِ والنسا               الفتيِّات أو نوح التسخط ُمورِد .

ووصف الزنا والخمر كشعر نزار قباني وغيره من الفتانيّن في هذا الزمان. ولو عمل الشعر نياحةً فهو حرام .

    وأمرك بالمعروف والنهي يا فتى               عن المنكر اجعل فرض عين تُسدَّدِ

جعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض عين.

    على عالم بالحظر والفعل لم يقم               سواه به مع أمن عدوان   معتدي .

على عالم بالحظر: أي ينبغي أن يكون عالماً فيما يأمر به ، عالماً بما ينهى عنه، مع أمن عدوان معتدي فبين أنه لو كان الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر مهدد بالضرب أو السجن إن فعل ذلك فإذا سكت عن الأمر والنهي فلا يأثم لأنّه مكره ، لكن لو صبر وأمر ونهى فهو مأجور فإن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (سيد الشهداء حمزة ، ورجل قام إلى إمام جاهل  فأمره ونهاه ، فقتله ) . ثم قال :

    وأنكر على الصبيان كل محرمٍ                 لتأديبهم والعلم في الشرع بالرد .

ولو رأى المؤمن مع صبيّ مزمارا ، فلا يقل هذا صغيرٌ غير مُكَلَّفٍ. بل يأخذه منه ولابدّ نزعه منه وأعطاه لوليّه ، وقال له لا يجوز لك أن تلبسه ذهباً ، ولا يجوز للصبي أيضاً أن يُلبس ثوباً مسبلاً ولا يجوز لوليه أن يفعل به ذلك . فالصبيان هل ينكر عليهم ؟.. الجواب: نعم .

وبالأسهل إبدأ ثم زد قدر حاجةٍ                     فإن لم ُيزل بالنافذ الأمرُ فاصددِ.

بالأسهل ابدأ " أي لا تبدأ بالضرب مثلاً  ! بل يُبدأ بالكلام الطيب .. بالحكمة .. بالرفق .." ثم زد قدر حاجة " ، على قدر الحاجة تعلو الوتيرة في الإنكار حتى يُزال المنكر . فإذا لم يستجب لك ولا استطعت  أن تغيّره بيدك ، فاصدد  عنه ، ولا تجلس في مكان المنكر، فإن ذلك لا يجوز.

 إذا لم تخف في ذلك الأمر حيفةً                      إذا كان ذا الإنكار حتمَ التأكد .

لأن بعض الناس قد يكون له سلطان فإذا فعل به ما فعل في مجلسه أوانكر عليه  فآذاه ، فيسقط  وجوب الانكار حينئذْ  . 

ولا غرم في دف  الصنوج كسرته                      ولا صوَر أيضاً ولا آلة الدَّدِ .

"الصنوج " هذ الطار الذي له ِحلَق معدنية إذا هزها ضربت الحلق بعضها بعضاً فأصدرت صوتاً فهذا لا يجوز ،والدف المباح للنساء في الأعراس هوالدف المُعتاد الذي ليس له حِلق .. فإذا استعملوا دفاً آخر لم يجز . وإذا كُسِرَ الطبل أو العود لا غُرْمَ عليه .. ولا يستطيع صاحبه أن يشتكي إلى القاضي أو يقول إضمنه لي .. فلان كسر عودي .. أو كسر طبلتي ..فلاغرم في ذلك .

"ولا صور أيضاً " :يعني  التماثيل فلو أتلفها فإنه لا يضمن الثمن ولا يستطيع أن يقول كسرت تمثالي هات قيمته . " الدد" هو اللهو وآلة اللهو .

    وآلة تنجيم  و سحر و  نحوه                      وكتب حوت هذا وأشباهه أُقددِ

و مثل ذلك لعبة الآن موجودة في الأسواق . حدّثونا عنها بأنها عبارة عن لوحةٍ تحوي أحرف اللغة الإنجليزية وأرقامها ، كما تحتوي على سهم من البلاستيك ذي الاتجاه ، بحيث يضع المرء أصبعيه عليها ، ويُستحسن أن تكون معه إمرأة ؟! -هكذا يقولون في تعليمات اللعبة ؟!- حيث تضع أصبعيها أيضاً على هذه القطعة البلاستيكية ثم ينادي المرء الجنيّة، وتقول يا فلانه هل حضرت؟! فيشير هذا السهم إلى إشارة نعم أو لا - و مكتوب على اللوحة نعم أو لا-  وبعد ذلك يقول مثلا : ما إسمي ؟ فتشير إلى الحرف الأول من إسمه -حيث يتحرك المؤشر لوحده- كم عمري ؟ فتتحرك إلى الثلاثة والسبعة مثلا أو إلى الأربعة والصفر.. لتشير إلى عمره !!، كم عدد أولادي ؟ ونحو ذلك .. وهذه اللعبة قد أفتتن بها أشخاص مع أنها من السفاهات والسذاجات ولا تدخل في عقل عاقل .. وهي تباع في بعض المحلات هنا . وكان سعرها سبعين ريالاً .. ولما ازداد الطلب عليها من الناس الذين عندهم قلة دين وعقل صارت الآن بمئة  وأربعين..وأكثر من مئة وأربعين . وقد أتى لي أحدهم بهذه اللعبة فقلت : الآن لو قمنا بتشغيلها فهل تشتغل ؟ قال : لا.. إذ بمجرد عزمنا على إحضارها إلى الشيخ كفت عن العمل؟!!

فهذا مثل حيٌّ من الخرافات و الخزعبلات الموجودة بين الناس، وبعض الناس يصدقون بها فعلاً.. وهناك أيضاً ما يسمّى بلعبة الفرجار والإبرة ..وفيها إشارة " نعم" و"لا ".. وينادون الجنية –بزعمهم – أو الجن على أساس أنها تشير لهم على الأجوبة .. ويقال أن طالبة سألت اللعبة : ما هي أسئلة إختبار القرآن غداً ؟! فأعطتها أرقام السور.. وجاءت مثل ما قالت !! وكلامٌ كثيرٌ من ذلك!! .. فيقول الناظم - رحمه الله -: " وكتبٌ حوت هذا واشباهه أقدد" :

اقددِ : يعني مزِّقْ ، مثل كتاب "شمس المعارف" وغيره من الأشياء التي فيها تعليم السحر وتحضير الأرواح .. وتحضير الجن وغير ذلك .

وأضاف إليها الشيخ محمد السلمان أبياتاً من عندة مثل:  

و قلت  كذاك   السينماء  و مثلُه                    بلا ريب مذياع وتلفاز معتد

و أوراق ألعاب بها ضاع عمرهم                   وكرامتهم مزق هديت وقددِ

كذا بكمانٍ  و  الصليب و  مزمرٍ                   وآلة تصويرٍ بها الشر مرتدي

كذاك  دخان  و  شيشة    شربه                   وآلة  تطفاة  له   اكسر و بددِ

ثم يقول الناظم رحمه الله :- عودة إلى المنظومة الأصلية -

وهجران من أبدى المعاصي سنةٌ                  وقد قيل أن يردعه أوجب وأكدِ

كما دلّ عليه حديث كعب وغيره . فإذا كان الهجران يردع صاحب المعصية فإن الهجران في  حقه واجب ..

        وقيل على الإطلاق مادام معلِناً                    ولاقه بوجه مكفهرّ معربد

يعني مادام معلناً بالفسق سواءً كان يؤثر فيه الهجر أولا يؤثر فيه .. فأهجره وغيّر وجهك عليه لأنه صاحب منكر مجاهر به. فإذا كان الهجر لا يزيده إلا سوءاً فما حكم الهجر ؟ لا يجوز . لأن الهجر قائم مع قاعدة المصالح والمفاسد .

        ويحرم تجسيس على متستر             بفسق وماضي الفسق إن لم يجددِ

يعني أن المتستر بالفسق لا يجوز التجسس عليه في بيته ، ومن ثبت في ماضيه فسق سابق  وماضي لا يجوز التجسس عليه مادام لم يرجع إلى فسقه السابق - حتى وإن كان صاحب سوابق مظهراً توبته-

                وحظر إنتفا التسليم فوق ثلاثةٍ           على  غير من قلنا بهجرٍ فاكّدِ

يعني لا يجوز أن تهجر أخاك فوق ثلاثة أيامٍ لا تُسلم عليه.

على غير من قلنا  " كالمعلن بالمعصية ، والمبتدع " حيث تهجره فوق الثلاثة والشهر والسنة حتى يرتدع.

                و  كن عالماً  أنَّ  السلام   لسُنة                  وردُّك فرضٌ ليس ندباً بأوطدِ

                ويجزئ تسليم امرئ من جماعة         ورد فتى منهم عن الكل ياعدي .

لو سلم واحد من الجماعة على قوم جالسين فرد واحد من الجالسين أجزأ هذا عن هؤلاء وهذا عن هؤلاء .

                و تسليم نزرٍ والصغيرِ وعابرِ           سبيلٍ وركبانٍ على الضد أيّدِ

يعني بهذا الأدب تسليم القليل على الكثير ،والنزر: يعني القليل ، والصغير يسلم على الكبير .. والماشي يسلم على القاعد ، والراكب يسلم على الماشي .. على الضد .

        و  إن  سلَّم  المأمور  بالرد   منهم             فقد حصل المسنون إذ  هو مهتدِ

        وسلَّم إذا ما قمت من حضرة امرئٍ             وسلَّم إذا ما جئت   بيتك   تهتدي 

إذا زرت شخصاً وأردت أن تغادر فسلّم عند المغادرة . وإذا دخل المؤمن بيته فليسلّم على أهله: ) فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة( [النور:61].

        وإفشاؤك التسليم يوجب محبةً                 من الناس مجهولاً ومعروفاً إقصدِ

ولذلك يخطئ كثير من الناس اليوم ،فإذا سار لايسلم إلاعلى من يعرف ، ويجب إفشاء السلام على من عرفت ومن لم تعرف . وذلك لأن إفشاءك التسليم يوجب محبة من الناس مجهولاً ومعروفاً، و اقصد: أي سلّم على من عرفت ومن لم تعرف  ، والسلام على الذين تعرفهم فقط من أشراط الساعة ، وهو أمرٌ مذموم .

        وتعريفهُ  لفظ  السلام  مجوّز                  وتنكيرهُ أيضاً على نص أحمدِ

يعني لو قلت: سلامٌ عليكم، أوالسلام عليكم ، تنكيراً أو تعريفاً.. فكل ذلك صحيح .

        و  سنة  إستئذانه     لدخوله                    على  غيره  من أقربين و بٌعَّدِ

يشير هنا إلى وجوب الإستئذان قبل الدخول على الأقربين والأباعد، فلو أردت  دخول غرفة أمك -التي هي أمك- وهي فيها  ، فلا تدخل حتى تستأذنها.. فهل تحب أن تراها على عري ؟! وكذلك الأبعدين-من باب أولى- فلا تدخل عليهم حتى تستأذنهم .

        ثلاثاً و مكروه دخول لهاجمٍ                     و لاسيما من سفرة ٍ  وتبعُّدِ

يعني الإستئذان ثلاثاً ، "لهاجم " يهجم أي يدخل من غير إستئذان ، حتى ولو كان الزوج ، لا يهجم على البيت وإنما يستأذن وخصوصاً إذا أتي من سفر حتى لا يقع على مايكرهه من زوجته ، وإنما يمهل حتى تستحد المغيبة، يعني تأخذ من شعرها الذي يسبب الرائحة الكريهة، وتمتشط الشعث ، وتتهيأ بالتزيُّن لزوجها ، حتى لايراها في حال ربما تشمأز نفسه منها .

        ووقفته  تلقاء  با بٍ و كوّةٍ                 فإن لم يُجَب يمضي وإن يخف يزددِ

يشير هنا إلى النهي عن الوقوف تلقاء الباب مباشرةً ، فإذا فُتَحَ رأى من بالبيت ، والواجب أن يقف على جنب بحيث لو فُـتَحَ الباب فإنه لايرى ما لا يحل له رؤيته من بيت أخيه المسلم.

"وكوةٍ ": أيضاً النافذة أو الثقب .

" فإن لم يُجَب " : أي إذا استأذن  ثلاثاً ولم يُستجب له ، فالواجب أن يمضي، يعني ضربت الجرس ثلاث مرات أو قلت السلام عليكم ثلاث مرات فإن لم يؤذن لك فامض في طريقك.

  "وإن يخف يزددِ": أي إذا ظن أنهم لمّا يسمعوا إستئذانه فيجوز لك أن تزيد على الثلاث .

        وتحريك نعليه وإظهار حسه                    لدخلته حتى  لمنزله  اشهدِ

كماجاء عن ابن مسعود أنه كان إذا جاء عند باب بيته تنحنح حتى يَعلم أهل البيت أنه داخل.

        وصافح لمن تلقاه من كل مسلم                  تناثر حطاياكم كما في المُسَنّدِ

المصافحة سنّة وبها تتناثر خطايا المسلمين .

        و ليس  لغير الله حل سجودنا                   و يُكره  تقبيل  الثرى  بتشدّدِ

أما السجود فلا يجوز لغير الله . "وتقبيل الثرى بتشدد": إذا قبّل الأرض وسجد يصير الحرام أكثر وأشد، كان سجود التحيه في من قبلنا من الأمم كما سجد إخوة يوسف ليوسف أو أهل يوسف ليوسف، ولكن ذلك في شرعنا حرام ، ولمّا رجع معاذ من الشام وسجد للنبي صلى الله عليه وسلم ، سأله النبي عليه الصلاة والسلام : ما هذا؟  قال رأيتهم يسجدون لعظمائهم وأنت أعظم من هؤلاء العظماء  - أي أنت أولى بالسجود - فنهاه عليه الصلاة والسلام عن السجود ، وقال لو كنت آمر أحداً أن يسجد لأحدٍ لأمرتُ المرأة أن تسجد لزوجها ، من عظم حقه عليها .

        وُيكرهُ منك الإنحناءُ مسلِّماً                      وتقبيلُ رأس المرءِ حلٌّ وفي اليدِ

الإنحناء عند السلام منهيٌ عنه ، ولفظة " ُيكره" تأتي بمعنى يحرم ولكن يستخدمها كما استخدمها الإمام أحمد -رحمه الله - ورعاً ، مثل ما يحدث من الإنحناء في بعض الألعاب الرياضية ، كالكراتيه وغيرها ، حيث ينحني بعضهم قبل بداية اللعبة ، و هذا حرام لا يجوز. "وتقبيل رأس المرء ": ويجوز تقبيل رأس العالم والوالد و كبير السن  وكذلك تقبيل اليد .

        ونزع يدٍ ممن يصافح عاجلاً             وأن يتناجى الجمع من دون مفردِ

يعني يُكروه إذا صافحت أخاك أن تستعجل فتسحب يدك قبله ، وأيضاً يُنهي عن تناجي جماعة من دون أحدهم.

        وأن يجلس الانسان عند محدَّثٍ                بسرٍّ وقيل أحضر وإن يأذن أقعدِ

أي لا تجلس بين إثنين يتناجيان ..وإن استأذنت جاز أن تجلس إذا أُذن لك.. وقيل لاتاتِ أصلاً .

        وكن واصل الأرحام حتى لكاشحٍ              توخّر  في عمرٍ و رزق و تسعدِ

"كاشحٍ" : يعني صاحب عداوة، "توخّرفي عمر" : أي يطول عمرك ، وتزداد رزقاً.

        ويحسن  تحسين لخلق و صحبة              و  لا   سيما    للوالدِ     المتأكَّدِ

هذا حثٌ على حُسن الصحبة و مع الوالدين أولى وأوكد.

        ولوكان ذا كفر، وأوجب طوعه             سوى في حرام  أو لأمرٍ    مؤكّدِ

"ذا كفر" : الوالد حتى لو كان كافرا وجب طاعته والإحسان إليه إلاّ إذا أمرك بمعصية.

        كتطلاب علم لا يضرهما   به             و  تطليق  زوجاتٍ  برأي   مجردِ

يعني لا تطيعه اذا أمرك بشي’ٍ مؤكد شرعاً كطلب العلم الذي تحتاج إليه و لايضرهما . ولو قال لك طلق زوجتك برأي مجرد عن الأسباب الشرعيّة، حيث لم تفعل الزوجة شراً ولا أساءت خُلقاً .. فلا يلزمك طاعة والديك في هذه  الحالة.

        وأحسن  إلى  أصحابه  بعد موته             فهذا    بقايا   برّه     المتعوّدِ

المراد الإحسان إلى أصحاب أبيك وأمك .." هل بقي من بر أبوي شيء أفعله بعد موتهما ". فأخبره عليه الصلاة والسلام :" أن تصل صديقهما من بعدهما" .

        ويشرعُ إيكاء السقا وغطا الإنا                 وإيجاف أبواب و طف’ لموقد

تغطية الإناء بعد الشرب ، و" إيجاف أبواب" إغلاق الباب بعد ما تدخل البيت ، "طف’ لموقد": إطفاء السرج.

        وتقليم أظفار و نتف  لإبطه                   و حلقاً  و للتنوير  للعانة  أقصدِ

"التنوير" : وضع النورة لإزالة الشعر ، والمقصود الإزالة سواءً كان بالحلق أو القص أو أي شيء من المزيلات أوالنورة.

        وها قد بذلت النصُّح جهدي وإنني            مقرّ بتقصيري وبالله أهتدي

        تقضِّت  بحمد الله  ليست  ذميمةً            و لكنها  كالدرّ  في عُقد خردِ

"تقضَّت":  يعني أنقضت القصيدة واكتملت أبياتها.

        يحارُ  لها  قلب  اللبيب  وعارف             كريمان إن  جالا  بفكر ٍ   منضّدِ

        فخذها بحرصٍ ليس بالنوم تد رِكن             أهل النهى والفضل في كل مشهدِ

        و قد  كمُلت  و الحمد  لله  وحده             على  كل   حالٍ  دائماً  لم  يُصددِ

وسنبدأ في الفصل التالي إن شاء الله آداب تلاوة القرآن .. والله أعلم .

                                                     وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله

                                                                  وصحبه وسلم .